فصل: (بَابُ مَنْ يَجُوزُ دَفْعُ الصَّدَقَةِ إلَيْهِ وَمَنْ لَا يَجُوزُ):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير للعاجز الفقير



.(بَابُ مَنْ يَجُوزُ دَفْعُ الصَّدَقَةِ إلَيْهِ وَمَنْ لَا يَجُوزُ):

قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ (الْأَصْلُ فِيهِ قوله تَعَالَى: {إنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} الْآيَةَ. فَهَذِهِ ثَمَانِيَةُ أَصْنَافٍ، وَقَدْ سَقَطَ مِنْهَا الْمُؤَلَّفَةُ قُلُوبُهُمْ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَعَزّ الْإِسْلَامَ وَأَغْنَى عَنْهُمْ) وَعَلَى ذَلِكَ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ.
الشَّرْحُ:
(بَابُ مَنْ يَجُوزُ دَفْعُ الصَّدَقَةِ إلَيْهِ وَمَنْ لَا يَجُوزُ):
قوله: (الْأَصْلُ فِيهِ) أَيْ فِيمَنْ يَجُوزُ الدَّفْعُ إلَيْهِ وَمَنْ لَا قوله تَعَالَى: {إنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} الْآيَةَ فَمَنْ كَانَ مِنْ هَؤُلَاءِ الْأَصْنَافِ كَانَ مَصْرِفًا وَمَنْ لَا فَلَا لِأَنَّ إنَّمَا تُفِيدُ الْحَصْرَ فَيَثْبُتُ النَّفْيُ عَنْ غَيْرِهِمْ.
قولهُ: (سَقَطَ مِنْهَا الْمُؤَلَّفَةُ قُلُوبُهُمْ) كَانُوا ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ: قِسْمٌ كُفَّارٌ كَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يُعْطِيهِمْ لِيَتَأَلَّفَهُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَقِسْمٌ كَانَ يُعْطِيهِمْ لِيَدْفَعَ شَرَّهُمْ، وَقِسْمٌ أَسْلَمُوا وَفِيهِمْ ضَعِيفٌ فِي الْإِسْلَامِ. فَكَانَ يَتَأَلَّفُهُمْ لِيَثْبُتُوا، وَلَا حَاجَةَ إلَى إيرَادِ السُّؤَالِ الْقَائِلِ كَيْفَ يَجُوزُ صَرْفُ الصَّدَقَةِ إلَى الْكُفَّارِ، وَجَوَابُهُ: أَنَّهُ كَانَ مِنْ جِهَادِ الْفُقَرَاءِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ أَوْ مِنْ الْجِهَادِ لِأَنَّهُ تَارَةً بِالسِّنَانِ، وَمَرَّةً بِالْإِحْسَانِ لِأَنَّ الَّذِي إلَيْهِ نُصِبَ الشَّرْعُ إذَا نَصَّ عَلَى الصَّرْفِ إلَيْهِمْ وَبَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ هُمْ بِالْإِعْطَاءِ كَانَ هَذَا هُوَ الْمَشْرُوعُ وَالْأَسْئِلَةُ عَلَى مَا يُجْتَهَدُ فِيهِ بِاعْتِبَارِ نُبُوٍّ عَنْ الْمَنْصُوصِ أَوْ الْقَوَاعِدِ الَّتِي تُعْطِيهَا الْعُمُومَاتُ حَتَّى يُجَابَ بِمَا يُفِيدُ إدْرَاجَهَا فِي نُصُوصِ الشَّارِعِ أَوْ قَوَاعِدِهِ الْمُفَادَةُ بِالْعُمُومَاتِ أَوْ بِاللَّوَازِمِ لِأَحَدِهِمَا فَكَيْفَ بِمَنْ هُوَ نَفْسُ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ. فَإِنْ قُلْت: السُّؤَالُ مَعْنَاهُ طَلَبُ حِكْمَةِ الْمَشْرُوعِ الْمَنْصُوصِ. قُلْنَا: لَوْ كَانَ كَذَلِكَ كَانَ جَوَابُهُ بِنَفْسِ مَا عَلَّلْنَا بِهِ إعْطَاءَ الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ لَا بِمَا أَجَابُوا بِهِ فَتَأَمَّلْ مُسْتَعِينًا. ثُمَّ رَوَى الطَّبَرِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ فِي قوله تَعَالَى: {إنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} الْآيَةَ بِإِسْنَادِهِ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ قال: «الْمُؤَلَّفَةُ قُلُوبُهُمْ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ سُفْيَانُ بْنُ حَرْبٍ، وَمِنْ بَنَى مَخْزُومٍ الْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يَرْبُوعٍ، وَمِنْ بَنِي جُمَحٍ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ، وَمِنْ بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو، وَحُوَيْطِبُ بْنُ عَبْدِ الْعُزَّى، وَمِنْ بَنِي أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ، وَمِنْ بَنِي هَاشِمٍ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَمِنْ فَزَارَةَ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ، وَمِنْ بَنِي تَمِيمٍ الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ، وَمِنْ بَنِي نَصْرٍ مَالِكُ بْنُ عَوْفٍ، وَمِنْ بَنِي سُلَيْمٍ الْعَبَّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ، وَمِنْ ثَقِيفٍ الْعَلَاءُ بْنُ حَارِثَةَ أَعْطَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلَّ رَجُلٍ مِنْهُمْ مِائَةَ نَاقَةٍ إلَّا عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ يَرْبُوعٍ، وَحُوَيْطِبَ بْنَ عَبْدِ الْعُزَّى، فَإِنَّهُ أَعْطَى كُلَّ رَجُلٍ مِنْهُمَا خَمْسِينَ» وَأَسْنَدَ أَيْضًا قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ حِينَ جَاءَ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ «الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ» يَعْنِي لَيْسَ الْيَوْمَ مُؤَلَّفَةٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ الشَّعْبِيِّ إنَّمَا كَانَتْ الْمُؤَلَّفَةُ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا وُلِّيَ أَبُو بَكْرٍ انْقَطَعَتْ.
قولهُ: (عَلَى ذَلِكَ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ) أَيْ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ فِي خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ، فَإِنَّ عُمَرَ رَدَّهُمْ، وَقَالَ مَا ذَكَرْنَا لِعُيَيْنَةَ وَقِيلَ جَاءَ عُيَيْنَةُ وَالْأَقْرَعُ يَطْلُبَانِ أَرْضًا إلَى أَبِي بَكْرٍ فَكَتَبَ لَهُ الْخَطَّ، فَمَزَّقَهُ عُمَرُ وَقَالَ: هَذَا شَيْءٌ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْطِيكُمُوهُ لِيَتَأَلَّفَكُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَالْآنَ فَقَدْ أَعَزَّ اللَّهُ الْإِسْلَامَ وَأُغْنِيَ عَنْكُمْ، فَإِنْ ثُبْتُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ وَإِلَّا فَبَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ السَّيْفُ، فَرَجَعُوا إلَى أَبِي بَكْرٍ فَقَالُوا: الْخَلِيفَةُ أَنْتَ أَمْ عُمَرُ؟ فَقَالَ: هُوَ إنْ شَاءَ، وَوَافَقَهُ فَلَمْ يُنْكِرْ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ مَعَ مَا يَتَبَادَرُ مِنْهُ مِنْ كَوْنِهِ سَبَبًا لِإِثَارَةِ الثَّائِرَةِ أَوْ ارْتِدَادِ بَعْضِ الْمُسْلِمِينَ فَلَوْلَا اتِّفَاقُ عَقَائِدِهِمْ عَلَى حَقِيقَتِهِ وَأَنَّ مَفْسَدَةَ مُخَالَفَتِهِ أَكْثَرُ مِنْ الْمَفْسَدَةِ الْمُتَوَقَّعَةِ لَبَادَرُوا لِإِنْكَارِهِ نَعَمْ يَجِبُ أَنْ يُحْكَمَ عَلَى الْقول بِأَنَّهُ لَا إجْمَاعَ إلَّا عَنْ مُسْتَنَدِ عِلْمِهِمْ بِدَلِيلٍ أَفَادَ نَسْخَ ذَلِكَ قَبْلَ وَفَاتِهِ أَوْ أَفَادَ تَقْيِيدَ الْحُكْمِ بِحَيَّاتِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَوْ عَلَى كَوْنِهِ حُكْمًا مُغَيَّا بِانْتِهَاءِ عِلَّتِهِ، وَقَدْ اتَّفَقَ انْتِهَاؤُهَا بَعْدَ وَفَاتِهِ أَوْ مِنْ آخِرِ عَطَاءٍ أَعْطَاهُمُوهُ حَالَ حَيَاتِهِ أَمَّا مُجَرَّدُ تَعْلِيلِهِ بِكَوْنِهِ مُعَلَّلًا بِعِلَّةٍ انْتَهَتْ فَلَا يَصْلُحُ دَلِيلًا يُعْتَمَدُ فِي نَفْيِ الْحُكْمِ الْمُعَلَّلِ لِمَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ قَرِيبٍ فِي مَسَائِلِ الْأَرْضِ مِنْ أَنَّ الْحُكْمَ لَا يَحْتَاجُ فِي بَقَائِهِ إلَى بَقَاءِ عِلَّتِهِ لِثُبُوتِ اسْتِغْنَائِهِ فِي بَقَائِهِ عَنْهَا شَرْعًا لِمَا عُلِمَ فِي الرِّقِّ وَالِاضْطِبَاعِ وَالرَّمَلِ فَلَا بُدَّ فِي خُصُوصِ مَحَلٍّ يَقَعُ فِيهِ الِانْتِفَاءُ عِنْدَ الِانْتِفَاءِ مِنْ دَلِيلٍ عَلَى أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ مِمَّا شُرِعَ مُقَيَّدًا ثُبُوتُهُ بِثُبُوتِهَا، غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُنَا تَعْيِينُهُ فِي مَحَلِّ الْإِجْمَاعِ بَلْ إنْ ظَهَرَ وَإِلَّا وَجَبَ الْحُكْمُ بِأَنَّهُ ثَابِتٌ عَلَى أَنَّ الْآيَةَ الَّتِي ذَكَرَهَا عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ تَصْلُحُ لِذَلِكَ وَهِيَ قوله تَعَالَى: {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ}، وَالْمُرَادُ بِالْعِلَّةِ فِي قولنَا حُكْمٌ مُغَيَّا بِانْتِهَاءِ عِلَّتِهِ الْعِلَّةُ الْغَائِيَّةُ، وَهَذَا لِأَنَّ الدَّفْعَ لِلْمُؤَلَّفَةِ هُوَ الْعِلَّةُ لِلْإِعْزَازِ إذْ يُفْعَلُ الدَّفْعُ لِيَحْصُلَ الْإِعْزَازُ فَإِنَّمَا انْتَهَى تَرَتُّبِ الْحُكْمِ الَّذِي هُوَ الْإِعْزَازُ عَلَى الدَّفْعِ الَّذِي هُوَ الْعِلَّةُ. وَعَنْ هَذَا قِيلَ عَدَمُ الدَّفْعِ الْآنَ لِلْمُؤْتَلِفَةِ تَقْرِيرًا لِمَا كَانَ فِي زَمَنِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَا نَسْخَ لِأَنَّ الْوَاجِبَ كَانَ الْإِعْزَازَ، وَكَانَ بِالدَّفْعِ وَالْآنَ هُوَ فِي عَدَمِ الدَّفْعِ، لَكِنْ لَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا لَا يَنْفِي النَّسْخَ لِأَنَّ إبَاحَةَ الدَّفْعِ إلَيْهِمْ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ كَانَ ثَابِتًا وَقَدْ ارْتَفَعَ، وَغَايَةُ الْأَمْرِ أَنَّهُ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ هُوَ عِلَّةٌ لِحُكْمٍ آخَرَ شَرْعِيٌّ فَنُسِخَ الْأَوَّلُ لِزَوَالِ عِلَّتِهِ.

متن الهداية:
(وَالْفَقِيرُ مَنْ لَهُ أَدْنَى شَيْءٍ وَالْمِسْكِينُ مَنْ لَا شَيْءَ لَهُ) وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَقَدْ قِيلَ عَلَى الْعَكْسِ وَلِكُلٍّ وَجْهٌ ثُمَّ هُمَا صِنْفَانِ أَوْ صِنْفٌ وَاحِدٌ سَنَذْكُرُهُ فِي كِتَابِ الْوَصَايَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. (وَالْعَامِلُ يَدْفَعُ إلَيْهِ الْإِمَامُ إنْ عَمِلَ بِقَدْرِ عَمَلِهِ فَيُعْطِيهِ مَا يَسَعُهُ وَأَعْوَانُهُ غَيْرَ مُقَدَّرٍ بِالثَّمَنِ) خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَهُ بِطَرِيقِ الْكِفَايَةِ، وَلِهَذَا يَأْخُذُ وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا إلَّا أَنَّ فِيهِ شُبْهَةَ الصَّدَقَةِ فَلَا يَأْخُذُهَا الْعَامِلُ الْهَاشِمِيُّ تَنْزِيهًا لِقَرَابَةِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَنْ شُبْهَةِ الْوَسَخِ، وَالْغَنِيُّ لَا يُوَازِيهِ فِي اسْتِحْقَاقِ الْكَرَامَةِ فَلَمْ تُعْتَبَرْ الشُّبْهَةُ فِي حَقِّهِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَالْفَقِيرُ مَنْ لَهُ أَدْنَى شَيْءٍ) وَهُوَ مَا دُونَ النِّصَابِ أَوْ قَدْرُ نِصَابٍ غَيْرَ نَامٍ وَهُوَ مُسْتَغْرَقٌ فِي الْحَاجَةِ وَالْمِسْكِينُ مَنْ لَا شَيْءَ لَهُ فَيَحْتَاجُ لِلْمَسْأَلَةِ لِقُوتِهِ أَوْ مَا يُوَارِي بَدَنَهُ وَيَحِلُّ لَهُ ذَلِكَ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ حَيْثُ لَا تَحِلُّ الْمَسْأَلَةُ لَهُ فَإِنَّهَا لَا تَحِلُّ لِمَنْ يَمْلِكُ قُوتَ يَوْمِهِ بَعْدَ سُتْرَةِ بَدَنِهِ، وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ: لَا تَحِلُّ لِمَنْ كَانَ كَسُوبًا أَوْ يَمْلِكُ خَمْسِينَ دِرْهَمًا، وَيَجُوزُ صَرْفُ الزَّكَاةِ لِمَنْ لَا تَحِلُّ لَهُ الْمَسْأَلَةُ بَعْدَ كَوْنِهِ فَقِيرًا وَلَا يُخْرِجُهُ عَنْ الْفَقْرِ مِلْكُ نُصُبٍ كَثِيرَةٍ غَيْرِ نَامِيَةٍ إذَا كَانَتْ مُسْتَغْرَقَةٌ بِالْحَاجَةِ وَلِذَا قُلْنَا: يَجُوزُ لِلْعَالِمِ وَإِنْ كَانَتْ تُسَاوِي نُصُبًا كَثِيرَةً عَلَى تَفْصِيلِ مَا قَدَّمْنَاهُ فِيهَا إذَا كَانَ مُحْتَاجًا إلَيْهَا لِلتَّدْرِيسِ أَوْ بِالْحِفْظِ أَوْ التَّصْحِيحِ، وَلَوْ كَانَتْ مِلْكَ عَامِّيٍّ وَلَيْسَ لَهُ نِصَابٌ نَامٍ لَا يَحِلُّ دَفْعُ الزَّكَاةِ لَهُ لِأَنَّهَا غَيْرُ مُسْتَغْرَقَةٍ فِي حَاجَتِهِ فَلَمْ تَكُنْ كَثِيَابِ الْبِذْلَةِ، وَعَلَى هَذَا جَمِيعُ آلَاتِ الْمُحْتَرِفِينَ إذَا مَلَكَهَا صَاحِبُ تِلْكَ الْحِرْفَةِ وَغَيْرُهُ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ النُّصُبَ ثَلَاثَةٌ: نِصَابٌ يُوجِبُ الزَّكَاةَ عَلَى مَالِكِهِ وَهُوَ النَّامِي خِلْقَةً أَوْ إعْدَادًا وَهُوَ سَالِمٌ مِنْ الدَّيْنِ، وَنِصَابٌ لَا يُوجِبُهَا وَهُوَ مَا لَيْسَ أَحَدَهُمَا فَإِنْ كَانَ مُسْتَغْرَقًا بِحَاجَةِ مَالِكِهِ حَلَّ لَهُ أَخْذُهَا وَإِلَّا حَرُمَتْ عَلَيْهِ كَأَثْيَابٍ تُسَاوِي نِصَابًا لَا يَحْتَاجُ إلَى كُلِّهَا أَوْ أَثَاثٍ لَا يَحْتَاجُ إلَى اسْتِعْمَالِهِ كُلِّهِ فِي بَيْتِهِ وَعَبْدٍ وَفَرَسٍ لَا يَحْتَاجُ إلَى خِدْمَتِهِ وَرُكُوبِهِ وَدَارٍ لَا يَحْتَاجُ إلَى سَكَنِهَا، فَإِنْ كَانَ مُحْتَاجًا إلَى مَا ذَكَرْنَا حَاجَةً أَصْلِيَّةً فَهُوَ فَقِيرٌ يَحِلُّ دَفْعُ الزَّكَاةِ إلَيْهِ وَتَحْرُمُ الْمَسْأَلَةُ عَلَيْهِ. وَنِصَابٌ يَحْرُمُ الْمَسْأَلَةُ وَهُوَ مَلَكَ قُوتَ يَوْمِهِ أَوْ لَا يَمْلِكُهُ لَكِنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى الْكَسْبِ أَوْ يَمْلِكُ خَمْسِينَ دِرْهَمًا عَلَى الْخِلَافِ فِي ذَلِكَ.
قولهُ: (وَلِكُلٍّ وَجْهٌ) وَجْهُ كَوْنِ الْفَقِيرِ أَسْوَأَ حَالًا قوله تَعَالَى: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ} أَثْبَتَ لِلْمَسَاكِينِ سَفِينَةً، وَأُجِيبَ بِأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ لَهُمْ بَلْ هُمْ أُجَرَاءُ فِيهَا أَوْ عَارِيَّةٌ لَهُمْ أَوْ قِيلَ لَهُمْ مَسَاكِينُ تَرَحُّمًا. وَقولهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسلام: «اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مِسْكِينًا وَأَمِتْنِي مِسْكِينًا وَاحْشُرْنِي فِي زُمْرَةِ الْمَسَاكِينِ» مَعَ مَا رُوِيَ أَنَّهُ تَعَوَّذَ بِاَللَّهِ مِنْ الْفَقْرِ، وَجَوَابُهُ أَنَّ الْفَقْرَ الْمُتَعَوَّذَ مِنْهُ لَيْسَ إلَّا فَقْرُ النَّفْسِ لِمَا صَحَّ أَنَّهُ كَانَ يَسْأَلُ الْعَفَافَ وَالْغِنَى، وَالْمُرَادُ مِنْهُ غِنَى النَّفْسِ لَا كَثْرَةُ الدُّنْيَا، فَلَا دَلِيلَ عَلَى أَنَّ الْفَقِيرَ أَسْوَأُ حَالًا مِنْ الْمِسْكِينِ، وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدَّمَهُمْ فِي الْآيَةِ عَلَى الْمَسَاكِينِ فَدَلَّ عَلَى زِيَادَةِ الِاهْتِمَامِ بِهِمْ، وَذَلِكَ مَظِنَّةُ زِيَادَةِ حَاجَتِهِمْ. وَقَدْ يُمْنَعُ بِأَنَّهُ قَدَّمَ الْعَامِلِينَ عَلَى الرِّقَابِ مَعَ أَنَّ حَالَهُمْ أَحْسَنُ ظَاهِرًا وَأَخَّرَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ مَعَ الدَّلَالَةِ عَلَى زِيَادَةِ تَأْكِيدِ الدَّفْعِ إلَيْهِمْ حَيْثُ أَضَافَ إلَيْهِمْ بِلَفْظَةِ فِي فَدَلَّ أَنَّ التَّقْدِيمَ لِاعْتِبَارٍ آخَرَ غَيْرِ زِيَادَةِ الْحَاجَةِ، وَالِاعْتِبَارَاتُ الْمُنَاسَبَةُ لَا تَدْخُلُ تَحْتَ ضَبْطٍ خُصُوصًا مِنْ عَلَّامِ الْغُيُوبِ، وَلِأَنَّ الْفَقِيرَ بِمَعْنَى الْمَفْقُودِ، وَهُوَ الْمَكْسُورُ الْفَقَارِ فَكَانَ أَسْوَأَ حَالًا، وَمُنِعَ بِجَوَازِ كَوْنِهِ مِنْ فَقُرَتْ لَهُ فِقْرَةٌ مِنْ مَالِي: أَيْ قِطْعَةٌ مِنْهُ فَيَكُونُ لَهُ شَيْءٌ وَقول الشَّاعِرِ:
هَلْ لَك فِي أَجْرٍ عَظِيمٍ تُؤْجَرُهُ

تُعِينُ مِسْكِينًا كَثِيرًا عَسْكَرُهُ

عَشْرَ شِيَاهٍ سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ

عُورِضَ بِقول الْآخَرِ:
أَمَّا الْفَقِيرُ الَّذِي كَانَتْ حَلُوبَتُهُ ** وَفْقَ الْعِيَالِ فَلَمْ يُتْرَكْ لَهُ سَبَدُ

يُقَالُ مَالَهُ سَبَدٌ وَلَا لَبَدٌ أَيْ شَيْءٌ وَأَصْلُ السَّبَدِ الشَّعْرُ كَذَا فِي دِيوَانِ الْأَدَبِ، وَقول الْأَوَّلِ عَشْرُ شِيَاهٍ سَمْعَهُ.
إلَخْ لَمْ يَسْتَلْزِمْ أَنَّهَا مَمْلُوكَتُهُ هِيَ سَمْعُهُ لِجَوَازِ عَشْرٍ تَحْصُلُ لَهُ تَكُونُ سَمْعَهُ فَيَكُونُ سَائِلًا مِنْ الْمُخَاطَبِ عَشْرَ شِيَاهٍ يَسْتَعِينُ بِهَا عَلَى عَسْكَرِهِ أَيْ عِيَالِهِ وَيُؤْجَرُ فِيهَا الْمُخَاطَبُ الدَّافِعُ لَهَا. وَجْهُ الْأُخْرَى قوله تَعَالَى: {أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ} أَيْ أَلْصَقَ جِلْدَهُ بِالتُّرَابِ مُحْتَفِرًا حُفْرَةً جَعَلَهَا إزَارَهُ لِعَدَمِ مَا يُوَارِيهِ أَوْ أَلْصَقَ بَطْنَهُ بِهِ لِلْجُوعِ، وَتَمَامُ الِاسْتِدْلَالِ بِهِ مَوْقُوفٌ عَلَى أَنَّ الصِّفَةَ كَاشِفَةٌ، وَالْأَكْثَرُ خِلَافُهُ فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ فَتَكُونُ مُصَنَّفَةً وَخَصَّ هَذَا الصِّنْفَ بِالْحَضِّ عَلَى إطْعَامِهِمْ كَمَا خَصَّ الْيَوْمَ بِكَوْنِهِ ذَا مَسْغَبَةٍ: أَيْ مَجَاعَةٍ لِقَحْطٍ وَغَيْرِهِ، وَمِنْ تَخْصِيصِ الْيَوْمِ عَلِمْنَا أَنَّ الْمَقْصُودَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْحَضُّ عَلَى الصَّدَقَةِ فِي حَالِ زِيَادَةِ الْحَاجَةِ زِيَادَةَ حَضٍّ. وَقولهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسلام: «لَيْسَ الْمِسْكِينُ الَّذِي تَرُدُّهُ اللُّقْمَةُ وَاللُّقْمَتَانِ وَالتَّمْرَةُ وَالتَّمْرَتَانِ، وَلَكِنْ الْمِسْكِينُ الَّذِي لَا يُعْرَفُ وَلَا يُفْطَنُ لَهُ فَيُعْطَى وَلَا يَقُومُ فَيَسْأَلُ النَّاسَ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. فَمَحْمَلُ الْإِثْبَاتِ أَعْنِي قوله: «وَلَكِنْ الْمِسْكِينُ الَّذِي لَا يُعْرَفُ فَيُعْطَى» مُرَادٌ مَعَهُ وَلَيْسَ عِنْدَهُ شَيْءٌ فَإِنَّهُ نَفَى الْمَسْكَنَةَ عَمَّنْ يَقْدِرُ عَلَى لُقْمَةٍ وَلُقْمَتَيْنِ بِطَرِيقِ الْمَسْأَلَةِ وَأَثْبَتَهَا لِغَيْرِهِ، فَهُوَ بِالضَّرُورَةِ مَنْ لَا يَسْأَلُ مَعَ أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى اللُّقْمَةِ وَاللُّقْمَتَيْنِ لَكِنَّ الْمَقَامَ مَقَامُ مُبَالَغَةٍ فِي الْمَسْكَنَةِ، وَلِذَا صَرَّحَ الْمَشَايِخُ فِي عَرْضِ أَنَّ الْمُرَادَ لَيْسَ الْكَامِلَ فِي الْمَسْكَنَةِ، وَعَلَى هَذَا فَالْمَسْكَنَةُ الْمَنْفِيَّةُ عَنْ غَيْرِهِ هِيَ الْمَسْكَنَةُ الْمُبَالَغُ فِيهَا لَا مُطْلَقُ الْمَسْكَنَةِ وَحِينَئِذٍ لَا يُفِيدُ الْمَطْلُوبَ. الثَّالِثُ مَوْضِعُ الِاشْتِقَاقِ وَهُوَ السُّكُونُ يُفِيدُ الْمَطْلُوبَ كَأَنَّهُ عَجَزَ عَنْ الْحَرَكَةِ فَلَا يَبْرَحُ.
قولهُ: (ثُمَّ هُمَا صِنْفَانِ أَوْ صِنْفٌ وَاحِدٌ) ثَمَرَتُهُ فِي الْوَصَايَا، وَالْأَوْقَافِ إذَا أَوْصَى بِثُلُثِهِ لِزَيْدٍ وَلِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ أَوْ وَقَفَ فَلِزَيْدٍ ثُلُثُ الثُّلُثِ وَلِكُلٍّ ثُلُثُهُ عَلَى قول أَبِي حَنِيفَةَ، وَعَلَى قول أَبِي يُوسُفَ لِفُلَانٍ نِصْفُ الثُّلُثِ، وَلِلْفَرِيقَيْنِ نِصْفُهُ، بِنَاءً عَلَى جَعْلِهِمَا صِنْفًا وَاحِدًا. وَالصَّحِيحُ قول أَبِي حَنِيفَةَ ذَكَرَهُ فَخْرُ الْإِسْلَامِ.
قولهُ: (فَيُعْطِيهِ مَا يَسَعُهُ وَأَعْوَانَهُ) مِنْ كِفَايَتِهِمْ بِالْوَسَطِ إلَّا إنْ اسْتَغْرَقَتْ كِفَايَتُهُ الزَّكَاةَ فَلَا يُزَادُ عَلَى النِّصْفِ لِأَنَّ التَّنْصِيفَ عَيْنُ الْإِنْصَافِ. وَتَقْدِيرُ الشَّافِعِيِّ بِالثُّمُنِ بِنَاءً عَلَى وُجُوبِ صَرْفِ الزَّكَاةِ إلَى كُلِّ الْأَصْنَافِ وَهُمْ ثَمَانِيَةٌ إنَّمَا يَتِمُّ عَلَى اعْتِبَارِ عَدَمِ سُقُوطِ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ، وَلَوْ هَلَكَ الْمَالُ قَبْلَ أَنْ يَأْخُذَ لَمْ يَسْتَحِقَّ شَيْئًا لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَهُ فِيمَا عَمِلَ فِيهِ كَالْمُضَارِبِ إذَا هَلَكَ الْمَالُ بَعْدَ ظُهُورِ الرِّبْحِ.
قولهُ: (فَلَمْ تُعْتَبَرْ الشُّبْهَةُ) أَيْ شُبْهَةُ الصَّدَقَةِ فِي حَقِّ الْغَنِيِّ كَمَا اُعْتُبِرَ فِي حَقِّ الْهَاشِمِيِّ؛ لِأَنَّهُ لَا يُوَازِي الْهَاشِمِيَّ فِي اسْتِحْقَاقِ الْكَرَامَةِ وَمَنْعُ الْهَاشِمِيِّ مِنْ الْعِمَالَةِ صَرِيحٌ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي سَيَأْتِي وَنُنَبِّهُك عَلَيْهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

متن الهداية:
قَالَ: (وَفِي الرِّقَابِ يُعَانُ الْمُكَاتَبُونَ مِنْهَا فِي فَكِّ رِقَابِهِمْ) وَهُوَ الْمَنْقول.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَهُوَ الْمَنْقول) أَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ عَنْ الْحَسَنِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّ مُكَاتَبًا قَامَ إلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ وَهُوَ يَخْطُبُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَقَالَ لَهُ: أَيُّهَا الْأَمِيرُ حُثَّ النَّاسَ عَلَيَّ. فَحَثَّ عَلَيْهِ أَبُو مُوسَى، فَأَلْقَى النَّاسُ عَلَيْهِ، هَذَا يُلْقِي عِمَامَةً وَهَذَا يُلْقِي مُلَاءَةً وَهَذَا يُلْقِي خَاتَمًا حَتَّى أَلْقَى النَّاسُ عَلَيْهِ سَوَادًا كَثِيرًا، فَلَمَّا رَأَى أَبُو مُوسَى مَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ قَالَ: اجْمَعُوهُ، ثُمَّ أَمَرَ بِهِ فَبِيعَ، فَأُعْطِيَ الْمُكَاتَبُ مُكَاتَبَتَهُ ثُمَّ أَعْطَى الْفَضْلَ فِي الرِّقَابِ وَلَمْ يَرُدَّ عَلَى النَّاسِ، وَقَالَ: إنَّ هَذَا الَّذِي أُعْطُوهُ فِي الرِّقَابِ. وَأَخْرَجَ عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ. وَالزُّهْرِيِّ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ قَالُوا: فِي الرِّقَابِ هُمْ الْمُكَاتَبُونَ. وَأَمَّا مَا رُوِيَ «أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ يُقَرِّبُنِي إلَى الْجَنَّةِ وَيُبَاعِدُنِي مِنْ النَّارِ، فَقَالَ: أَعْتِقْ النَّسَمَةَ، وَفُكَّ الرَّقَبَةَ، فَقَالَ: أَوَلَيْسَا سَوَاءً؟ قَالَ لَا أَعْتِقْ الرَّقَبَةَ أَنْ تَنْفَرِدَ بِعِتْقِهَا، وَفُكَّ النَّسَمَةَ أَنْ تُعِينَ فِي ثَمَنِهَا» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ. فَقِيلَ لَيْسَ فِيهِ مَا يَسْتَلْزِمُ كَوْنَ هَذَا هُوَ مَعْنَى وَفِي الرِّقَابِ الْمَذْكُورِ فِي الْآيَةِ.

متن الهداية:
(وَالْغَارِمُ مَنْ لَزِمَهُ دَيْنٌ وَلَا يَمْلِكُ نِصَابًا فَاضِلًا عَنْ دَيْنِهِ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ مَنْ تَحَمَّلَ غَرَامَةً فِي إصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ وَإِطْفَاءِ الثَّائِرَةِ بَيْنَ الْقَبِيلَتَيْنِ (وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ مُنْقَطِعُ الْغُزَاةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ) لِأَنَّهُ هُوَ الْمُتَفَاهَمُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ (وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ مُنْقَطِعُ الْحَاجِّ) لِمَا رَوَى «أَنَّ رَجُلًا جَعَلَ بَعِيرًا لَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. فَأَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَحْمِلَ عَلَيْهِ الْحَاجَّ».
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَالْغَارِمُ مَنْ لَزِمَهُ دَيْنٌ) أَوْ لَهُ دَيْنٌ عَلَى النَّاسِ لَا يَقْدِرُ عَلَى أَخْذِهِ وَلَيْسَ عِنْدَهُ نِصَابٌ فَاضِلٌ فِي الْفَصْلَيْنِ، وَلَوْ دَفَعَ إلَى فَقِيرَةٍ لَهَا مَهْرٌ دَيْنٌ عَلَى زَوْجِهَا يَبْلُغُ نِصَابًا وَهُوَ مُوسِرٌ بِحَيْثُ لَوْ طَلَبَتْ أَعْطَاهَا لَا يَجُوزُ وَإِنْ كَانَتْ بِحَيْثُ لَا يُعْطِي لَوْ طَلَبَتْ جَازَ.
قولهُ: (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: هُوَ مَنْ تَحَمَّلَ إلَخْ) فَيَأْخُذُ وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا وَعِنْدَنَا لَا يَأْخُذُ إلَّا إذَا لَمْ يَفْضُلْ لَهُ بَعْدَ مَا ضَمِنَهُ قَدْرَ نِصَابٍ. وَالنَّائِرَةُ بِالنُّونِ قولهُ لِمَا رُوِيَ «أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَمَرَ رَجُلًا» إلَخْ أَخْرَجَ أَبُو دَاوُد فِي بَابِ الْعُمْرَةِ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ: «أَمَرَنِي رَسُولُ مَرْوَانَ الَّذِي أُرْسِلَ إلَى أُمِّ مَعْقِلٍ. فَسَاقَهُ إلَى أَنْ ذَكَرَ قَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ عَلَيَّ حَجَّةً وَلِأَبِي مَعْقِلٍ بَكْرًا. قَالَ أَبُو مَعْقِلٍ: جَعَلْتُهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَعْطِهَا فَلْتَحُجَّ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. فَأَعْطَاهَا الْبَكْرَ» وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ مُهَاجِرٍ مُتَكَلَّمٌ فِيهِ، وَفِي بَعْضِ طُرُقِهِ أَنَّهُ كَانَ بَعْدَ وَفَاةِ أَبِي مَعْقِلٍ، ذَكَرَتْ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهَا. اعْتَمِرِي عَلَيْهِ ثُمَّ فِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مَا هُوَ الْمُرَادُ بِسَبِيلِ اللَّهِ الْمَذْكُورِ فِي الْآيَةِ. وَالْمَذْكُورِ فِي الْحَدِيثِ لَا يَلْزَمُ كَوْنُهُ إيَّاهُ لِجَوَازِ أَنَّهُ أَرَادَ الْأَمْرَ الْأَعَمَّ، وَلَيْسَ ذَلِكَ الْمُرَادُ فِي الْآيَةِ بَلْ نَوْعٌ مَخْصُوصٌ، وَإِلَّا فَكُلُّ الْأَصْنَافِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِذَلِكَ الْمَعْنَى. ثُمَّ لَا يُشْكِلُ أَنَّ الْخِلَافَ فِيهِ لَا يُوجِبُ خِلَافًا فِي الْحُكْمِ لِلِاتِّفَاقِ عَلَى أَنَّهُ إنَّمَا يُعْطَى الْأَصْنَافُ كُلُّهُمْ سِوَى الْعَامِلِ بِشَرْطِ الْفَقْرِ فَمُنْقَطِعٌ الْحَاجُّ يُعْطَى اتِّفَاقًا.

متن الهداية:
وَلَا يَصْرِفُ إلَى أَغْنِيَاءِ الْغُزَاةِ عِنْدَنَا لِأَنَّ الْمَصْرِفَ هُوَ الْفُقَرَاءُ (وَابْنُ السَّبِيلِ مَنْ كَانَ لَهُ مَالٌ فِي وَطَنِهِ) وَهُوَ فِي مَكَان لَا شَيْءَ لَهُ فِيهِ. قَالَ: (فَهَذِهِ جِهَاتُ الزَّكَاةِ، فَلِلْمَالِكِ أَنْ يَدْفَعَ إلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، وَلَهُ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى صِنْفٍ وَاحِدٍ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَجُوزُ إلَّا أَنْ يَصْرِفَ إلَى ثَلَاثَةٍ مِنْ كُلِّ صِنْفٍ، لِأَنَّ الْإِضَافَةَ بِحَرْفِ اللَّامِ لِلِاسْتِحْقَاقِ. وَلَنَا أَنَّ الْإِضَافَةَ لِبَيَانِ أَنَّهُمْ مَصَارِفُ لَا لِإِثْبَاتِ الِاسْتِحْقَاقِ، وَهَذَا لِمَا عُرِفَ أَنَّ الزَّكَاةَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى، وَبِعِلَّةِ الْفَقْرِ صَارُوا مَصَارِفَ فَلَا يُبَالِي بِاخْتِلَافِ جِهَاتِهِ، وَاَلَّذِي ذَهَبْنَا إلَيْهِ مَرْوِيٌّ عَنْ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَلَا يُصْرَفُ إلَى أَغْنِيَاءِ الْغُزَاةِ عِنْدَنَا) يُشْعِرُ بِالْخِلَافِ، وَسَنَذْكُرُ الْخِلَافَ مِنْ قَرِيبٍ.
قولهُ: (وَابْنُ السَّبِيلِ) وَهُوَ الْمُسَافِرُ سُمِّيَ بِهِ لِثُبُوتِهِ فِي السَّبِيلِ، وَهُوَ الطَّرِيقُ فَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ وَإِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ فِي وَطَنِهِ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ لِلْحَالِ، وَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ أَكْثَرَ مِنْ حَاجَتِهِ، وَالْأَوْلَى لَهُ أَنْ يَسْتَقْرِضَ إنْ قَدَرَ وَلَا يَلْزَمُهُ ذَلِكَ لِجَوَازِ عَجْزِهِ عَنْ الْأَدَاءِ، وَأُلْحِقَ كُلُّ مَنْ هُوَ غَائِبٌ عَنْ مَالِهِ وَإِنْ كَانَ فِي بَلَدِهِ وَلَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ بِهِ، وَلَا يَلْزَمُ ابْنَ السَّبِيلِ التَّصَدُّقُ بِمَا فَضَلَ فِي يَدِهِ عِنْدَ قُدْرَتِهِ عَلَى مَالِهِ كَالْفَقِيرِ إذَا اسْتَغْنَى وَالْمُكَاتَبِ إذَا عَجَزَ وَعِنْدَهُمَا مِنْ مَالِ الزَّكَاةِ لَا يَلْزَمُهُمَا التَّصَدُّقُ.
قولهُ: (وَلَهُ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى صِنْفٍ وَاحِدٍ) وَكَذَا لَهُ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى شَخْصٍ وَاحِدٍ.
قولهُ: (بِحَرْفِ اللَّامِ لِلِاسْتِحْقَاقِ) وَذَكَرَ كُلَّ صِنْفٍ بِلَفْظِ الْجَمْعِ فَوَجَبَ أَنْ يُصْرَفَ إلَى ثَلَاثَةٍ مِنْ كُلِّ صِنْفٍ وَإِنْ كَانَ مُحَلًّى بِاللَّامِ؛ لِأَنَّ الْجِنْسَ هُنَا غَيْرُ مُمْكِنٍ فِيهِ الِاسْتِغْرَاقُ فَتَبْقَى الْجَمْعِيَّةُ عَلَى حَالِهَا. قُلْنَا: حَقِيقَةُ اللَّامِ الِاخْتِصَاصُ الَّذِي هُوَ الْمَعْنَى الْكُلِّيُّ الثَّابِتُ فِي ضِمْنِ الْخُصُوصِيَّاتِ مِنْ الْمِلْكِ وَالِاسْتِحْقَاقِ وَقَدْ يَكُونُ مُجَرَّدًا، فَحَاصِلُ التَّرْكِيبِ إضَافَةُ الصَّدَقَاتِ الْعَامِّ الشَّامِلِ لِكُلِّ صَدَقَةِ مُتَصَدِّقٍ إلَى الْأَصْنَافِ الْعَامِّ كُلٍّ مِنْهَا الشَّامِلِ لِكُلِّ فَرْدٍ فَرْدٍ بِمَعْنَى أَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ أَخَصُّ بِهَا كُلِّهَا، وَهَذَا لَا يَقْتَضِي لُزُومَ كَوْنِ كُلِّ صَدَقَةٍ وَاحِدَةً تَنْقَسِمُ عَلَى أَفْرَادِ كُلِّ صِنْفٍ، غَيْرَ أَنَّهُ اسْتَحَالَ ذَلِكَ فَلَزِمَ أَقَلُّ الْجَمْعِ مِنْهُ، بَلْ إنَّ الصَّدَقَاتِ كُلَّهَا لِلْجَمِيعِ أَعَمُّ مِنْ كَوْنِ كُلِّ صَدَقَةٍ. صَدَقَةً لِكُلِّ فَرْدٍ فَرْدٍ لَوْ أَمْكَنَ، أَوْ كُلَّ صَدَقَةٍ جُزْئِيَّةٍ لِطَائِفَةٍ أَوْ لِوَاحِدٍ. وَأَمَّا عَلَى اعْتِبَارِ أَنَّ الْجَمْعَ إذَا قُوبِلَ بِالْجَمْعِ أَفَادَ مِنْ حَيْثُ الِاسْتِعْمَالِ الْعَرَبِيِّ انْقِسَامَ الْآحَادِ عَلَى الْآحَادِ نَحْوُ {جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ} وَرَكِبَ الْقَوْمُ دَوَابَّهُمْ، فَالْإِشْكَالُ أَبْعَدُ حِينَئِذٍ إذْ يُفِيدُ أَنَّ كُلَّ صَدَقَةٍ لِوَاحِدٍ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَا حَاجَةَ إلَى نَفْيِ أَنَّهَا لِلِاسْتِحْقَاقِ بَلْ مَعَ كَوْنِهَا لَهُ يَجِيءُ هَذَا الْوَجْهُ فَلَا يُفِيدُ الْجَمْعَ مِنْ كُلِّ صِنْفٍ، إلَّا أَنَّهُمْ صَرَّحُوا بِأَنَّ الْمُسْتَحِقَّ هُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ غَيْرَ أَنَّهُ أَمَرَ بِصَرْفِ اسْتِحْقَاقِهِ إلَيْهِمْ عَلَى إثْبَاتِ الْخِيَارِ لِلْمَالِكِ فِي تَعْيِينِ مَنْ يَصْرِفُهُ إلَيْهِ فَلَا تَثْبُتُ حَقِيقَةُ الِاسْتِحْقَاقِ لِوَاحِدٍ إلَّا بِالصَّرْفِ إلَيْهِ إذْ قَبْلَهُ لَا تَعَيُّنَ لَهُ وَلَا اسْتِحْقَاقَ إلَّا لِمُعَيَّنٍ، وَجَبْرُ الْإِمَامِ لِقَوْمٍ عَلِمَ أَنَّهُمْ لَا يُؤَدُّونَ الزَّكَاةَ عَلَى إعْطَاءِ الْفُقَرَاءِ لَيْسَ إلَّا لِلْخُرُوجِ عَنْ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى لَا لِحَقِّهِمْ، ثُمَّ رَأَيْنَا الْمَرْوِيَّ عَنْ الصَّحَابَةِ نَحْوَ مَا ذَهَبْنَا إلَيْهِ، رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ عُمَرَ. وَرَوَى الطَّبَرِيُّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: أَخْبَرَنَا عِمْرَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قوله تَعَالَى: {إنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} الْآيَةَ، قَالَ: فِي أَيِّ صِنْفٍ وَضَعْته أَجْزَأَك.اهـ. أَخْبَرَنَا جَرِيرٌ عَنْ لَيْثٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: {إنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} الْآيَةَ، قَالَ: أَيُّمَا صِنْفٍ أَعْطَيْته مِنْ هَذَا أَجْزَأَ عَنْك. حَدَّثَنَا حَفْصٌ عَنْ لَيْثٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَأْخُذُ الْفَرْضَ مِنْ الصَّدَقَةِ فَيَجْعَلُهُ فِي صِنْفٍ وَاحِدٍ. وَرَوَى أَيْضًا عَنْ الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ عَنْ الْمِنْهَالِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ عَنْ حُذَيْفَةَ أَنَّهُ قَالَ: إذَا وَضَعْتهَا فِي صِنْفٍ وَاحِدٍ أَجْزَأَك، وَأَخْرَجَ نَحْوَ ذَلِكَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: وَعَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، وَأَبِي الْعَالِيَةِ وَمَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ بِأَسَانِيدَ حَسَنَةٍ. وَاسْتَدَلَّ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي التَّحْقِيقِ بِحَدِيثِ مُعَاذٍ «فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ». وَالْفُقَرَاءُ صِنْفٌ وَاحِدٌ وَفِيهِ نَظَرٌ تَسْمَعُهُ قَرِيبًا.
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ فِي كِتَابِ الْأَمْوَالِ: وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَاهُ بَعْدَ ذَلِكَ مَالٌ، فَجَعَلَهُ فِي صِنْفٍ وَاحِدٍ وَهُمْ الْمُؤَلَّفَةُ قُلُوبُهُمْ الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ وَعُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ وَعَلْقَمَةُ بْنُ عُلَاثَةَ وَزَيْدُ الْخَيْلِ قَسَّمَ فِيهِمْ الذَّهَبِيَّةَ الَّتِي بَعَثَ بِهَا مُعَاذٌ مِنْ الْيَمَنِ، وَإِنَّمَا تُؤْخَذُ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ الصَّدَقَةُ، ثُمَّ أَتَاهُ مَالٌ آخَرُ فَجَعَلَهُ فِي صِنْفٍ آخَرَ، وَهُمْ الْغَارِمُونَ، فَقَالَ لِقَبِيصَةَ بْنِ الْمُخَارِقِ حِينَ أَتَاهُ، وَقَدْ تَحَمَّلَ حِمَالَةً «يَا قَبِيصَةُ قُمْ حَتَّى تَأْتِيَنَا الصَّدَقَةُ فَنَأْمُرَ لَكَ بِهَا».
وَفِي حَدِيثِ سَلَمَةَ بْنِ صَخْرٍ الْبَيَاضِيِّ أَنَّهُ أَمَرَ لَهُ بِصَدَقَةِ قَوْمِهِ. وَأَمَّا الْآيَةُ فَالْمُرَادُ بِهَا بَيَانُ الْأَصْنَافِ الَّتِي يَجُوزُ الدَّفْعُ إلَيْهِمْ. قِيلَ: وَلَمْ يُرْوَ عَنْ غَيْرِهِمْ مَا يُخَالِفُهُمْ قولا وَلَا فِعْلًا.

متن الهداية:
(وَلَا يَجُوزُ أَنَّهُ يَدْفَعُ الزَّكَاةَ إلَى ذِمِّيٍّ) لِقولهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِمُعَاذٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: «خُذْهَا مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ وَرُدَّهَا فِي فُقَرَائِهِمْ». قَالَ: (وَيَدْفَعُ مَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ الصَّدَقَةِ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَا يَدْفَعُ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ اعْتِبَارًا بِالزَّكَاةِ. وَلَنَا قولهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسلام: «تَصَدَّقُوا عَلَى أَهْلِ الْأَدْيَانِ كُلِّهَا» وَلَوْلَا حَدِيثُ مُعَاذٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ لَقُلْنَا بِالْجَوَازِ فِي الزَّكَاةِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (لِقولهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمُعَاذٍ إلَخْ) رَوَاهُ أَصْحَابُ الْكُتُبِ السِّتَّةِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسلام: «إنَّكَ سَتَأْتِي قَوْمًا أَهْلَ كِتَابٍ، فَادْعُهُمْ إلَى شَهَادَةِ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ فَإِيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ».
قولهُ: (وَيُدْفَعُ لَهُمْ) أَيْ لِأَهْلِ الذِّمَّةِ (مَا سِوَى ذَلِكَ) كَصَدَقَةِ الْفِطْرِ وَالْكَفَّارَاتِ، وَلَا يُدْفَعُ ذَلِكَ لِحَرْبِيٍّ وَمُسْتَأْمَنٍ، فُقَرَاءُ الْمُسْلِمِينَ أَحَبُّ.
قولهُ: (وَلَنَا قولهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسلام: «تَصَدَّقُوا عَلَى أَهْلِ الْأَدْيَانِ كُلِّهَا») رَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مُرْسَلًا حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ عَنْ أَشْعَثَ عَنْ جَعْفَرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَصَدَّقُوا إلَّا عَلَى أَهْلِ دِينِكُمْ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ} إلَى قوله: {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إلَيْكُمْ} فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تَصَدَّقُوا عَلَى أَهْلِ الْأَدْيَانِ كُلِّهَا».
وَقَالَ أَيْضًا مُرْسَلًا حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنْ الْحَجَّاجِ عَنْ سَالِمِ الْمَكِّيِّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَنَفِيَّةِ قَالَ: كَرِهَ النَّاسُ أَنْ يَتَصَدَّقُوا عَلَى الْمُشْرِكِينَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سبحانه: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ} قَالَ: فَتَصَدَّقَ النَّاسُ عَلَيْهِمْ. وَرَوَى أَحْمَدُ بْنُ زَنْجُوَيْهِ النَّسَائِيّ فِي كِتَابِ الْأَمْوَالِ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي سَعِيدِ بْنِ أَبِي أَيُّوبَ عَنْ زُهْرَةَ بْنِ مَعْبَدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَصَدَّقَ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ مِنْ الْيَهُودِ بِصَدَقَةٍ فَهِيَ تَجْرِي عَلَيْهِمْ».
قولهُ: (وَلَوْلَا حَدِيثُ مُعَاذٍ لَقُلْنَا بِالْجَوَازِ) أَيْ بِجَوَازِ دَفْعِ الزَّكَاةِ إلَى الذِّمِّيِّ، لَكِنَّ حَدِيثَ مُعَاذٍ مَشْهُورٌ فَجَازَتْ الزِّيَادَةُ بِهِ عَلَى إطْلَاقِ الْكِتَابِ. أَعْنِي إطْلَاقَ الْفُقَرَاءِ فِي الْكِتَابِ أَوْ هُوَ عَامٌّ خُصَّ مِنْهُ الْحَرْبِيُّ بِالْإِجْمَاعِ مُسْتَنِدِينَ إلَى قوله تَعَالَى: {إنَّمَا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ} فَجَازَ تَخْصِيصُهُ بَعْدُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ.

متن الهداية:
(وَلَا يُبْنَى بِهَا مَسْجِدٌ وَلَا يُكَفَّنُ بِهَا مَيِّتٌ) لِانْعِدَامِ التَّمْلِيكِ وَهُوَ الرُّكْنُ (وَلَا يُقْضَى بِهَا دَيْنُ مَيِّتٍ) لِأَنَّ قَضَاءَ دَيْنِ الْغَيْرِ لَا يَقْتَضِي التَّمْلِيكَ مِنْهُ لَا سِيَّمَا مِنْ الْمَيِّتِ (وَلَا تُشْتَرَى بِهَا رَقَبَةٌ تُعْتَقُ) خِلَافًا لِمَالِكٍ ذَهَبَ إلَيْهِ فِي تَأْوِيلِ قوله تَعَالَى: {وَفِي الرِّقَابِ} وَلَنَا أَنَّ الْإِعْتَاقَ إسْقَاطُ الْمِلْكِ وَلَيْسَ بِتَمْلِيكٍ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (لِانْعِدَامِ التَّمْلِيكِ وَهُوَ الرُّكْنُ) فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَمَّاهَا صَدَقَةً، وَحَقِيقَةُ الصَّدَقَةِ تَمْلِيكُ الْمَالِ مِنْ الْفَقِيرِ، وَهَذَا فِي الْبِنَاءِ ظَاهِرٌ وَكَذَا فِي التَّكْفِينِ لِأَنَّهُ لَيْسَ تَمْلِيكًا لِلْكَفَنِ مِنْ الْمَيِّتِ وَلَا الْوَرَثَةِ، وَلِذَا لَوْ أَخْرَجَتْ السِّبَاعُ الْمَيِّتَ فَأَكَلَتْهُ كَانَ الْكَفَنُ لِصَاحِبِهِ لَا لَهُمْ.
قولهُ: (لِأَنَّ قَضَاءَ دَيْنِ الْغَيْرِ لَا يَقْتَضِي التَّمْلِيكَ مِنْهُ) وَلِذَا لَوْ تَصَادَقَ الدَّائِنُ وَالْمَدْيُونُ عَلَى أَنْ لَا دِينَ كَانَ لِلْمُزَكِّي أَنْ يَسْتَرِدَّ مِنْ الْقَابِضِ، وَمَحْمَلُ هَذَا أَنْ يَكُونَ بِغَيْرِ إذْنِ الْحَيِّ، أَمَّا إذَا كَانَ بِإِذْنِهِ وَهُوَ فَقِيرٌ فَيَجُوزُ عَنْ الزَّكَاةِ عَلَى أَنَّهُ تَمْلِيكٌ مِنْهُ وَالدَّائِنُ يَقْبِضُهُ بِحُكْمِ النِّيَابَةِ عَنْهُ ثُمَّ يَصِيرُ قَابِضًا لِنَفْسِهِ.
وَفِي الْغَايَةِ نَقْلًا مِنْ الْمُحِيطِ وَالْمُفِيدِ: لَوْ قَضَى بِهَا دَيْنَ حَيٍّ أَوْ مَيِّتٍ بِأَمْرِهِ جَازَ، وَمَعْلُومٌ إرَادَةُ قَيْدِ فَقْرِ الْمَدْيُونِ، وَظَاهِرُ فَتَاوَى قَاضِي خَانٍ يُوَافِقُهُ، لَكِنَّ ظَاهِرَ إطْلَاقِ الْكِتَابِ وَكَذَا عِبَارَةُ الْخُلَاصَةِ حَيْثُ قَالَ: لَوْ بَنَى مَسْجِدًا بِنِيَّةِ الزَّكَاةِ أَوْ حَجَّ أَوْ أَعْتَقَ أَوْ قَضَى دَيْنَ حَيٍّ أَوْ مَيِّتٍ بِغَيْرِ إذْنِ الْحَيِّ لَا يَجُوزُ عَدَمُ الْجَوَازِ فِي الْمَيِّتِ مُطْلَقًا؛ أَلَا تَرَى إلَى تَخْصِيصِ الْحَيِّ فِي حُكْمِ عَدَمِ الْجَوَازِ بِعَدَمِ الْإِذْنِ وَإِطْلَاقِهِ فِي الْمَيِّتِ وَقَدْ يُوَجَّهُ بِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ كَوْنِهِ تَمْلِيكًا لِلْمَدْيُونِ وَالتَّمْلِيكُ لَا يَقَعُ عِنْدَ أَمْرِهِ بَلْ عِنْدَ أَدَاءِ الْمَأْمُورِ وَقَبْضِ النَّائِبِ، وَحِينَئِذٍ لَمْ يَكُنْ الْمَدْيُونُ أَهْلًا لِلتَّمْلِيكِ لِمَوْتِهِ. وَقولهُمْ: الْمَيِّتُ يَبْقَى مِلْكُهُ فِيمَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ جِهَازِهِ وَنَحْوِهِ حَاصِلُهُ بَقَاؤُهُ بَعْدَ ابْتِدَاءِ ثُبُوتِهِ حَالَةَ الْأَهْلِيَّةِ، وَأَيْنَ هُوَ مِنْ حُدُوثِ مِلْكِهِ بِالتَّمْلِيكِ وَالتَّمَلُّكُ وَلَا يَسْتَلْزِمُهُ. وَعَمَّا قُلْنَا يُشْكِلُ اسْتِرْدَادُ الْمُزَكِّي عِنْدَ التَّصَادُقِ إذَا وَقَعَ بِأَمْرِ الْمَدْيُونِ لِأَنَّ بِالدَّفْعِ وَقَعَ الْمِلْكُ لِلْفَقِيرِ بِالتَّمْلِيكِ وَقَبْضِ النَّائِبِ: أَعْنِي الْفَقِيرَ. وَعَدَمُ الدَّيْنِ فِي الْوَاقِعِ إنَّمَا يَبْطُلُ بِهِ صَيْرُورَتُهُ قَابِضًا لِنَفْسِهِ بَعْدَ الْقَبْضِ نِيَابَةً لَا التَّمْلِيكِ، الْأَوَّلِ لِأَنَّ غَايَةَ الْأَمْرِ أَنْ يَكُونَ مَلَّكَ فَقِيرًا عَلَى ظَنِّ أَنَّهُ مَدْيُونٌ وَظُهُورُ عَدَمِهِ لَا يُؤَثِّرُ عَدَمُهُ بَعْدَ وُقُوعِهِ لِلَّهِ تَعَالَى. وَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّ مِنْ الْفَقِيرِ إذَا عَجَّلَ لَهُ الزَّكَاةَ ثُمَّ تَمَّ الْحَوْلُ وَلَمْ يَتِمَّ النِّصَابُ الْمُعَجَّلُ عَنْهُ لِزَوَالِ مِلْكِهِ بِالدَّفْعِ، فَلَأَنْ لَا يَمْلِكَ الِاسْتِرْدَادُ هُنَا أَوْلَى، بِخِلَافِ مَا إذَا عَجَّلَ لِلسَّاعِي وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا حَيْثُ لَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّ لِعَدَمِ زَوَالِ الْمِلْكِ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ، وَكَذَا مَا ذَكَرَ فِي الْخُلَاصَةِ وَالْفَتَاوَى، لَوْ جَاءَ الْفَقِيرُ إلَى الْمَالِكِ بِدَرَاهِمَ سَتُّوقَةٍ لِيَرُدَّهَا فَقَالَ الْمَالِكُ: رُدَّ الْبَاقِيَ فَإِنَّهُ ظَهَرَ أَنَّ النِّصَابَ لَمْ يَكُنْ كَامِلًا فَلَا زَكَاةَ عَلَيَّ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّ إلَّا بِاخْتِيَارِ الْفَقِيرِ فَيَكُونُ هِبَةً مُبْتَدَأَةً مِنْ الْفَقِيرِ حَتَّى لَوْ كَانَ الْفَقِيرُ صَبِيًّا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْهُ وَإِنْ رَضِيَ فَهُنَا أَوْلَى.
فَرْعٌ:
لَوْ أَمَرَ فَقِيرًا بِقَبْضِ دَيْنٍ لَهُ عَلَى آخَرَ نَوَاهُ عَنْ زَكَاةِ عَيْنٍ عِنْدَهُ جَازَ لِأَنَّ الْفَقِيرَ يَقْبِضُ عَيْنًا فَكَانَ عَيْنًا عَنْ عَيْنٍ، وَلَوْ تَصَدَّقَ بِدَيْنٍ لَهُ عَلَى فَقِيرٍ يَنْوِيهِ عَنْ زَكَاتِهِ جَازَ عَنْ ذَلِكَ الدَّيْنِ نَفْسِهِ لَا عَنْ عَيْنٍ وَلَا دَيْنٍ آخَرَ.

متن الهداية:
(وَلَا تُدْفَعُ إلَى غَنِيٍّ) لِقولهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ» وَهُوَ بِإِطْلَاقٍ حُجَّةٌ عَلَى الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي غَنِيِّ الْغُزَاةِ. وَكَذَا حَدِيثُ مُعَاذٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى مَا رَوَيْنَا.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (لِقولهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسلام: «لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ») أَخْرَجَ أَبُو دَاوُد عَنْ التِّرْمِذِيِّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسلام: «لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ وَلَا لِذِي مِرَّةٍ سَوِيٍّ» حَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَفِيهِ رَيْحَانُ بْنُ زَيْدٍ تُكُلِّمَ فِيهِ، وَوَثَّقَهُ ابْنُ مَعِينٍ، وَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ: كَانَ أَعْرَابِيٌّ صَدَقَ. وَلِهَذَا الْحَدِيثِ طُرُقٌ كَثِيرَةٌ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ كُلُّهُمْ يَرْوِيهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ، وَأَحْسَنُهَا عِنْدِي مَا أَخْرَجَهُ النَّسَائِيّ وَأَبُو دَاوُد عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ الْخِيَارِ قَالَ أَخْبَرَنِي رَجُلَانِ «أَنَّهُمَا أَتَيَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يُقَسِّمُ الصَّدَقَةَ فَسَأَلَاهُ، فَرَفَعَ فِينَا الْبَصَرَ وَخَفَضَهُ فَرَآنَا جَلْدَيْنِ، فَقَالَ إنْ شِئْتُمَا أَعْطَيْتُكُمَا وَلَا حَظَّ فِيهَا لِغَنِيٍّ وَلَا لِقَوِيٍّ مُكْتَسِبٍ». قَالَ صَاحِبُ التَّنْقِيحِ: حَدِيثٌ صَحِيحٌ. قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: مَا أَجْوَدَهُ مِنْ حَدِيثٍ هُوَ أَحْسَنُهَا إسْنَادًا، فَهَذَا مَعَ حَدِيثِ مُعَاذٍ يُفِيدُ مَنْعَ غَنِيِّ الْغُزَاةِ وَالْغَارِمِينَ عَنْهَا، فَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى الشَّافِعِيِّ فِي تَجْوِيزِهِ لِغَنِيِّ الْغُزَاةِ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ شَيْءٌ فِي الدِّيوَانِ وَلَمْ يَأْخُذْ مِنْ الْفَيْءِ. وَمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الْفُقَرَاءَ فِي حَدِيثِ مُعَاذٍ صِنْفٌ وَاحِدٌ كَمَا قَالَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ غَيْرُ صَحِيحٍ، فَإِنَّ ذَلِكَ الْمَقَامَ مَقَامُ إرْسَالِ الْبَيَانِ لِأَهْلِ الْيَمَنِ وَتَعْلِيمِهِمْ، وَالْمَفْهُومُ مِنْ فُقَرَائِهِمْ مَنْ اتَّصَفَ بِصِفَةِ الْفَقْرِ أَعَمُّ مِنْ كَوْنِهِ غَارِمًا أَوْ غَازِيًا، فَلَوْ كَانَ الْغَنِيُّ مِنْهُمَا مَصْرِفًا كَانَ فَوْقَ الْبَيَانِ فِي وَقْتِ الْحَاجَةِ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ إبْقَاءً لِلْجَهْلِ الْبَسِيطِ، وَفِي هَذَا إيقَاعُهُمْ فِي الْجَهْلِ الْمُرَكَّبِ لِأَنَّ الْمَفْهُومَ لَهُمْ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْغِنَى مُطْلَقًا لَيْسَ يَجُوزُ الصَّرْفُ إلَيْهِ غَازِيًا أَوْ غَيْرَهُ، فَإِذَا فُرِضَ أَنَّهُ خِلَافُ الْوَاقِعِ لَزِمَ مَا قُلْنَا وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ فَلَا يَجُوزُ مَا يُفْضِي إلَيْهِ مَعَ أَنَّ نَفْسَ الْأَسْمَاءِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْآيَةِ تُفِيدُ أَنَّ الْمَنَاطَ فِي الدَّفْعِ إلَيْهِمْ الْحَاجَةُ لِمَا عُرِفَ مِنْ تَعْلِيقِ الْحُكْمِ بِالْمُشْتَقِّ أَنَّ مَبْدَأَ اشْتِقَاقِهِ عِلَّتُهُ، وَمَأْخَذُ الِاشْتِقَاقَاتِ فِي هَذِهِ الْأَسْمَاءِ تُنَبِّهُ عَلَى قِيَامِ الْحَاجَةِ، فَالْحَاجَةُ هِيَ الْعِلَّةُ فِي جَوَازِ الدَّفْعِ إلَّا الْمُؤَلَّفَةُ قُلُوبُهُمْ، فَإِنَّ مَأْخَذَ اشْتِقَاقِهِ يُفِيدُ أَنَّ الْمَنَاطَ التَّأْلِيفُ وَإِلَّا الْعَامِلُ فَإِنَّهُ يُفِيدُ أَنَّهُ الْعَمَلُ، وَفِي كَوْنِ الْعَمَلِ سَبَبًا لِلْحَاجَةِ تَرَدُّدٌ فَإِنَّهُ ظَاهِرًا يَكُونُ لَهُ أَعْوِنَةٌ وَخَدَمٌ وَيُهْدَى إلَيْهِ وَغَالِبًا تَطِيبُ نَفْسُ إمَامِهِ لَهُ بِكَثِيرٍ مِمَّا يُهْدَى إلَيْهِ فَلَا يَثْبُتُ عَلَيْهِ الْفَقْرُ فِي حَقِّهِ بِالشَّكِّ. وَمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ وَمَالِكٌ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسلام: «لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ إلَّا لِخَمْسَةٍ: الْعَامِلِ عَلَيْهَا وَرَجُلٍ اشْتَرَاهَا بِمَالِهِ، وَغَارِمٍ وَغَازٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَرَجُلٍ لَهُ جَارٌ مِسْكِينٌ تَصَدَّقَ بِهَا عَلَيْهِ فَأَهْدَاهَا إلَى الْغَنِيِّ» قِيلَ: لَمْ يَثْبُتْ، وَلَوْ ثَبَتَ لَمْ يَقْوَ قُوَّةَ حَدِيثِ مُعَاذٍ فَإِنَّهُ رَوَاهُ أَصْحَابُ الْكُتُبِ السِّتَّةِ مَعَ قَرِينَةٍ مِنْ الْحَدِيثِ الْآخَرِ. وَلَوْ قَوِيَ قُوَّتَهُ تَرَجَّحَ حَدِيثُ مُعَاذٍ بِأَنَّهُ مَانِعٌ، وَمَا رَوَاهُ مُبِيحٌ مَعَ أَنَّهُ دَخَلَهُ التَّأْوِيلُ عِنْدَهُمْ حَيْثُ قَيَّدَ الْأَخْذَ لَهُ بِأَنْ لَا يَكُونَ لَهُ شَيْءٌ فِي الدِّيوَانِ وَلَا أَخَذَ مِنْ الْفَيْءِ وَهُوَ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ، وَذَلِكَ يُضْعِفُ الدَّلَالَةَ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا لَمْ يَدْخُلْهُ تَأْوِيلٌ.

متن الهداية:
قَالَ: (وَلَا يَدْفَعُ الْمُزَكِّي زَكَاتَهُ إلَى أَبِيهِ وَجَدِّهِ وَإِنْ عَلَا، وَلَا إلَى وَلَدِهِ وَوَلَدِ وَلَدِهِ وَإِنْ سَفَلَ) لِأَنَّ مَنَافِعَ الْأَمْلَاكِ بَيْنَهُمْ مُتَّصِلَةٌ فَلَا يَتَحَقَّقُ التَّمْلِيكُ عَلَى الْكَمَالِ (وَلَا إلَى امْرَأَتِهِ) لِلِاشْتِرَاكِ فِي الْمَنَافِعِ عَادَةً (وَلَا تَدْفَعُ الْمَرْأَةُ إلَى زَوْجِهَا) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لِمَا ذَكَرْنَا، وَقَالَا: تَدْفَعُ إلَيْهِ لِقولهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَكِ أَجْرَانِ: أَجْرُ الصَّدَقَةِ، وَأَجْرُ الصِّلَةِ» قَالَهُ لِامْرَأَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَقَدْ سَأَلَتْهُ عَنْ التَّصَدُّقِ عَلَيْهِ؛ قُلْنَا: هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى النَّافِلَةِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَلَا يَدْفَعُ الْمُزَكِّي زَكَاتَهُ إلَخْ) الْأَصْلُ أَنَّ كُلَّ مَنْ انْتَسَبَ إلَى الْمُزَكِّي بِالْوِلَادِ أَوْ انْتَسَبَ هُوَ لَهُ بِهِ لَا يَجُوزُ صَرْفُهَا لَهُ، فَلَا يَجُوزُ لِأَبِيهِ وَأَجْدَادِهِ وَجَدَّاتِهِ مِنْ قِبَلِ الْأَبِ وَالْأُمِّ وَإِنْ عَلَوْا، وَلَا إلَى أَوْلَادِهِ وَأَوْلَادِهِمْ وَإِنْ سَفَلُوا، وَلَا يَدْفَعُ إلَى مَخْلُوقٍ مِنْ مَائِهِ بِالزِّنَا وَلَا إلَى أُمِّ وَلَدِهِ الَّذِي نَفَاهُ، وَلَوْ تَزَوَّجَتْ امْرَأَةُ الْغَائِبِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ الْأَوْلَادُ مِنْ الْأَوَّلِ، وَمَعَ هَذَا يَجُوزُ لِلْأَوَّلِ دَفْعُ الزَّكَاةِ إلَيْهِمْ، وَسَائِرُ الْقَرَابَاتِ غَيْرُ الْوِلَادِ يَجُوزُ الدَّفْعُ إلَيْهِمْ، وَهُوَ أَوْلَى لِمَا فِيهِ مِنْ الصِّلَةِ مَعَ الصَّدَقَةِ كَالْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ وَالْأَعْمَامِ وَالْعَمَّاتِ وَالْأَخْوَالِ وَالْخَالَاتِ، وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ فِي عِيَالِهِ وَلَمْ يَفْرِضْ الْقَاضِي النَّفَقَةَ لَهُ عَلَيْهِ فَدَفَعَهَا إلَيْهِ يَنْوِي الزَّكَاةَ جَازَ عَنْ الزَّكَاةِ، وَإِنْ فَرَضَهَا عَلَيْهِ فَدَفَعَهَا يَنْوِي الزَّكَاةَ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ أَدَاءُ وَاجِبٍ فِي وَاجِبٍ آخَرَ فَلَا يَجُوزُ إلَّا إذَا لَمْ يَحْتَسِبْهَا بِالنَّفَقَةِ لِتَحْقِيقِ التَّمْلِيكِ عَلَى الْكَمَالِ.
وَفِي الْفَتَاوَى وَالْخُلَاصَةِ: رَجُلٌ لَهُ أَخٌ قَضَى عَلَيْهِ بِنَفَقَتِهِ فَكَسَاهُ وَأَطْعَمَهُ يَنْوِي بِهِ الزَّكَاةَ قَالَ أَبُو يُوسُفَ يَجُوزُ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: يَجُوزُ فِي الْكِسْوَةِ لَا فِي الْإِطْعَامِ. وَقول أَبِي يُوسُفَ فِي الْإِطْعَامِ خِلَافُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَهَذَا خِلَافُ مَا قَبْلَهُ. وَيُمْكِنُ بِنَاءُ الِاخْتِلَافِ فِي الطَّعَامِ عَلَى أَنَّهُ إبَاحَةٌ أَوْ تَمْلِيكٌ، وَفِي الْكَافِي عَائِلٌ يَتِيمٌ أَطْعَمَهُ عَنْ زَكَاتِهِ صَحَّ خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ لِوُجُودِ الرُّكْنِ، وَهُوَ التَّمْلِيكُ، وَهَذَا إذَا سَلَّمَ الطَّعَامَ إلَيْهِ، أَمَّا إذَا لَمْ يَدْفَعْ إلَيْهِ لَا يَجُوزُ لِعَدَمِ التَّمْلِيكِ.اهـ. وَمُقْتَضَاهُ أَنَّ مُحَمَّدًا لَا يُجِيزُهُ وَإِنْ سَلَّمَ الطَّعَامَ إلَيْهِ مَعَ أَنَّهُ لَا قَضَاءَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَهُوَ بَعِيدٌ مِنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ.
قولهُ: (وَلَا إلَى امْرَأَتِهِ لِلِاشْتِرَاكِ فِي الْمَنَافِعِ) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى} أَيْ بِمَالِ خَدِيجَةَ. وَإِنَّمَا كَانَ مِنْهَا إدْخَالُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي الْمَنْفَعَةِ عَلَى وَجْهِ الْإِبَاحَةِ وَالتَّمْلِيكِ أَحْيَانًا فَكَانَ الدَّافِعُ إلَى هَؤُلَاءِ كَالدَّافِعِ لِنَفْسِهِ مِنْ وَجْهٍ إذْ كَانَ ذَلِكَ الِاشْتِرَاكُ ثَابِتًا، وَكَذَا لَا يَدْفَعُ إلَيْهِمْ صَدَقَةَ فِطْرِهِ وَكَفَّارَتِهِ وَعُشْرَهُ، بِخِلَافِ خُمْسِ الرِّكَازِ يَجُوزُ دَفْعُهُ لَهُمْ لِأَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ إلَّا الْفَقْرُ. وَلِهَذَا لَوْ افْتَقَرَ هُوَ قَبْلَ أَنْ يُخْرِجَهُ جَازَ أَنْ يُمْسِكَهُ لِنَفْسِهِ. فَصَارَ الْأَصْلُ فِي الدَّفْعِ الْمُسْقِطِ كَوْنَهُ عَلَى وَجْهٍ تَنْقَطِعُ مَنْفَعَتُهُ عَنْ الدَّافِعِ ذَكَرُوا مَعْنَاهُ وَلَا بُدَّ مِنْ قَيْدٍ آخَرَ، وَهُوَ مَعَ قَبْضٍ مُعْتَبَرٍ احْتِرَازًا عَمَّا لَوْ دَفَعَ لِلصَّبِيِّ الْفَقِيرِ غَيْرِ الْعَاقِلِ وَالْمَجْنُونِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ، وَإِنْ دَفَعَهَا الصَّبِيُّ إلَى أَبِيهِ قَالُوا: لَا يَجُوزُ. كَمَا لَوْ وَضَعَ زَكَاتَهُ عَلَى دُكَّانٍ فَجَاءَ الْفَقِيرُ وَقَبَضَهَا لَا يَجُوزُ، فَلَا بُدَّ فِي ذَلِكَ مِنْ أَنْ يَقْبِضَهَا لَهُمَا الْأَبُ أَوْ الْوَصِيُّ أَوْ مَنْ كَانَا فِي عِيَالِهِ مِنْ الْأَقَارِبِ أَوْ الْأَجَانِبِ الَّذِينَ يَعُولُونَهُ، وَالْمُلْتَقِطُ يَقْبِضُ لِلَّقِيطِ، وَلَوْ كَانَ الصَّبِيُّ مُرَاهِقًا أَوْ يَعْقِلُ الْقَبْضَ بِأَنْ كَانَ لَا يَرْمِي بِهِ وَيُخْدَعُ عَنْهُ يَجُوزُ. وَلَوْ وَضَعَ الزَّكَاةَ عَلَى يَدِهِ فَانْتَهَبَهَا الْفُقَرَاءُ جَازَ، وَكَذَا إنْ سَقَطَ مَالُهُ مِنْ يَدِهِ فَرَفَعَهُ فَقِيرٌ فَرَضِيَ بِهِ جَازَ وَإِنْ كَانَ يَعْرِفُهُ وَالْمَالُ قَائِمٌ، وَالدَّفْعُ إلَى الْمَعْتُوهِ مُجْزِئٌ.
قولهُ: (لِمَا ذَكَرْنَا) أَيْ مِنْ الِاشْتِرَاكِ فِي الْمَنَافِعِ فَلَمْ يَتَحَقَّقْ الْخُرُوجُ عَنْهُ عَلَى الْكَمَالِ، وَهُمَا قَالَ: لَا يَصِحُّ الْقِيَاسُ مَعَ النَّصِّ وَهُوَ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ وَالنَّسَائِيُّ عَنْ زَيْنَبَ امْرَأَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تَصَدَّقْنَ يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ وَلَوْ مِنْ حُلِيِّكُنَّ، وَقَالَتْ فَرَجَعْتُ إلَى عَبْدِ اللَّهِ فَقُلْتُ: إنَّكَ رَجُلٌ خَفِيفُ ذَاتِ الْيَدِ. وَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَمَرَنَا بِالصَّدَقَةِ، فَأْتِهِ فَاسْأَلْهُ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ يُجْزِئُ عَنِّي وَإِلَّا صَرَفْتُهَا إلَى غَيْرِكُمْ، قَالَتْ: فَقَالَ لِي عَبْدُ اللَّهِ: بَلْ ائْتِيهِ أَنْتِ. قَالَتْ: فَانْطَلَقْتُ فَإِذَا امْرَأَةٌ مِنْ الْأَنْصَارِ بِبَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَاجَتِي حَاجَتُهَا، قَالَتْ: وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أُلْقِيَتْ عَلَيْهِ الْمَهَابَةُ قَالَتْ: فَخَرَجَ عَلَيْنَا بِلَالٌ فَقُلْت: ائْتِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبِرْهُ أَنَّ امْرَأَتَيْنِ بِالْبَابِ تَسْأَلَانِكَ هَلْ تُجْزِئُ الصَّدَقَةُ عَنْهُمَا عَلَى أَزْوَاجِهِمَا، وَعَلَى أَيْتَامٍ فِي حُجُورِهِمَا وَلَا تُخْبِرْهُ مَنْ نَحْنُ، قَالَتْ: فَدَخَلَ بِلَالٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَهُ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ هُمَا:؟ قَالَ: امْرَأَةٌ مِنْ الْأَنْصَارِ وَزَيْنَبُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّ الزَّيَانِبِ؟ قَالَ: امْرَأَةُ عَبْدِ اللَّهِ. فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَهُمَا أَجْرَانِ: أَجْرُ الْقَرَابَةِ، وَأَجْرُ الصَّدَقَةِ». وَرَوَاهُ الْبَزَّارُ فِي مُسْنَدِهِ فَقَالَ فِيه: «فَلَمَّا انْصَرَفَ وَجَاءَ إلَى مَنْزِلِهِ: يَعْنِي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَتْهُ زَيْنَبُ امْرَأَةُ عَبْدِ اللَّهِ فَاسْتَأْذَنَتْ عَلَيْهِ، فَأَذِنَ لَهَا فَقَالَتْ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ: إنَّكَ أَمَرْتَنَا بِالصَّدَقَةِ وَعِنْدِي حُلِيٌّ لِي فَأَرَدْتُ أَنْ أَتَصَدَّقَ بِهِ، فَزَعَمَ ابْنُ مَسْعُودٍ أَنَّهُ وَوَلَدُهُ أَحَقُّ مَنْ تُصُدِّقَ بِهِ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: صَدَقَ ابْنُ مَسْعُودٍ زَوْجُكَ وَوَلَدُكَ أَحَقُّ مَنْ تَصَدَّقْتَ بِهِ عَلَيْهِمْ» وَلَا مُعَارِضَةَ لَازِمَةً بَيْنَ هَذِهِ الْأُولَى فِي شَيْءٍ بِأَدْنَى تَأَمُّلٍ. قوله: «وَوَلَدُك» يَجُوزُ كَوْنُهُ مَجَازًا عَنْ الرَّبَائِبِ وَهُمْ الْأَيْتَامُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى، وَكَوْنُهُ حَقِيقَةً وَالْمَعْنَى أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ إذَا تَمَلَّكَهَا أَنْفَقَهَا عَلَيْهِمْ وَالْجَوَابُ: أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي صَدَقَةِ نَافِلَةٍ لِأَنَّهَا هِيَ الَّتِي كَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَتَخَوَّلُ بِالْمَوْعِظَةِ وَالْحَثِّ عَلَيْهَا. وَقولهُ هَلْ يُجْزِئُ إنْ كَانَ فِي عُرْفِ الْفُقَهَاءِ الْحَادِثُ لَا يُسْتَعْمَلُ غَالِبًا إلَّا فِي الْوَاجِبِ، لَكِنْ كَانَ فِي أَلْفَاظِهِمْ لِمَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ النَّفْلِ لِأَنَّهُ لُغَةً الْكِفَايَةُ، فَالْمَعْنَى: هَلْ يَكْفِي التَّصَدُّقُ عَلَيْهِ فِي تَحْقِيقِ مُسَمَّى الصَّدَقَةِ وَتَحْقِيقِ مَقْصُودِهَا مِنْ التَّقَرُّبِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى فَيَسْلَمُ الْقِيَاسُ حِينَئِذٍ عَنْ الْمُعَارِضِ.

متن الهداية:
قَالَ: (وَلَا يَدْفَعُ إلَى مُكَاتَبِهِ وَمُدَبَّرِهِ وَأُمِّ وَلَدِهِ) لِفُقْدَانِ التَّمْلِيكِ إذَا كَسَبَ الْمَمْلُوكُ لِسَيِّدِهِ وَلَهُ حَقٌّ فِي كَسْبِ مُكَاتَبِهِ فَلَمْ يَتِمَّ التَّمْلِيكُ (وَلَا إلَى عَبْدٍ قَدْ أَعْتَقَ بَعْضَهُ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمُكَاتَبِ عِنْدَهُ وَقَالَا: يَدْفَعُ إلَيْهِ لِأَنَّهُ حُرٌّ مَدْيُونٌ عِنْدَهُمَا (وَلَا يَدْفَعُ إلَى مَمْلُوكٍ غَنِيٍّ) لِأَنَّ الْمِلْكَ وَاقِعٌ لِمَوْلَاهُ (وَلَا إلَى وَلَدِ غَنِيٍّ إذَا كَانَ صَغِيرًا) لِأَنَّهُ يُعَدُّ غَنِيًّا بِيَسَارِ أَبِيهِ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ كَبِيرًا فَقِيرًا لِأَنَّهُ لَا يُعَدُّ غَنِيًّا بِيَسَارِ أَبِيهِ وَإِنْ كَانَتْ نَفَقَتُهُ عَلَيْهِ، وَبِخِلَافِ امْرَأَةِ الْغَنِيِّ لِأَنَّهَا إنْ كَانَتْ فَقِيرَةً لَا تُعَدُّ غَنِيَّةً بِيَسَارِ زَوْجِهَا، وَبِقَدْرِ النَّفَقَةِ لَا تَصِيرُ مُوسِرَةً.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَلَهُ حَقٌّ فِي كَسْبِ مُكَاتَبِهِ) وَلِذَا لَوْ تَزَوَّجَ بِأَمَةِ مُكَاتَبِهِ لَمْ يَجُزْ بِمَنْزِلَةِ تَزَوُّجِهِ بِأَمَةِ نَفْسِهِ.
قولهُ: (لِأَنَّهُ حُرٌّ مَدْيُونٌ) أَمَّا أَنْ يَكُونَ لَفْظُ أَعْتَقَ بَعْضُهُ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ أَوْ لِلْمَفْعُولِ فَعَلَى الْأَوَّلِ لَا يَصْلُحُ التَّعْلِيلُ لَهُمَا بِأَنَّهُ حُرٌّ مَدْيُونٌ، إذْ هُوَ حُرٌّ كُلُّهُ بِلَا دَيْنٍ عِنْدَهُمَا؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ لَا يَتَجَزَّأُ عِنْدَهُمَا فَإِعْتَاقُ بَعْضِهِ إعْتَاقُ كُلِّهِ وَعَلَى الثَّانِي لَا يَصِحُّ تَعْلِيلُهُ عَدَمَ الْإِعْطَاءِ بِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمُكَاتَبِ عِنْدَهُ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ مُكَاتَبٌ لِلْغَيْرِ، وَهُوَ مُصَرَّفٌ بِالنَّصِّ، فَلَا يَعْرَى عَنْ الْإِشْكَالِ وَيَحْتَاجُ فِي دَفْعِهِ إلَى تَخْصِيصِ الْمَسْأَلَةِ. فَإِنْ قُرِئَ بِالْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ فَالْمُرَادُ عَبْدٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ ابْنِهِ أَعْتَقَ هُوَ نَصِيبَهُ فَعَلَيْهِ السِّعَايَةُ لِلِابْنِ فَلَا يَجُوزُ لَهُ الدَّفْعُ إلَيْهِ لِأَنَّهُ كَمُكَاتَبِ ابْنِهِ، وَكَمَا لَا يَدْفَعُ لِابْنِهِ لَا يَجُوزُ الدَّفْعُ لِمُكَاتَبِهِ. وَعِنْدَهُمَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ حُرٌّ مَدْيُونٌ لِلِابْنِ. وَإِنْ قُرِئَ بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ فَالْمُرَادُ عَبْدٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ أَجْنَبِيَّيْنِ أَعْتَقَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ فَيَسْتَسْعِيهِ السَّاكِتُ فَلَا يَجُوزُ لِلسَّاكِتِ الدَّفْعُ إلَيْهِ، لِأَنَّهُ كَمُكَاتَبِ نَفْسِهِ، وَعِنْدَهُمَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ مَدْيُونُهُ وَهُوَ حُرٌّ، وَيَجُوزُ أَنْ يَدْفَعَ الْإِنْسَانُ إلَى مَدْيُونِهِ أَمَّا لَوْ اخْتَارَ السَّاكِتُ التَّضْمِينَ كَانَ أَجْنَبِيًّا عَنْ الْعَبْدِ فَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَدْفَعَ إلَيْهِ كَمُكَاتَبِ الْغَيْرِ.
قولهُ: (وَلَا يَدْفَعُ إلَى مَمْلُوكٍ غَنِيٍّ) فَإِنْ كَانَ مَأْذُونًا مَدْيُونًا بِمَا يَسْتَغْرِقُ رَقَبَتَهُ وَكَسْبَهُ جَازَ الدَّفْعُ إلَيْهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ خِلَافًا لَهُمَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمَوْلَى لَا يَمْلِكُ كَسْبَهُ عِنْدَهُ فَهُوَ كَالْمُكَاتَبِ، وَعِنْدَهُمَا يَمْلِكُ، وَلَا إلَى مُدَبَّرِهِ وَأُمِّ وَلَدِهِ، بِخِلَافِ مُكَاتَبِهِ لِأَنَّهُ مَصْرِفٌ بِالنَّصِّ.
وَفِي الذَّخِيرَةِ: إذَا كَانَ الْعَبْدُ زَمِنًا وَلَيْسَ فِي عِيَالِ مَوْلَاهُ وَلَا يَجِدُ شَيْئًا أَوْ كَانَ مَوْلَاهُ غَائِبًا يَجُوزُ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ.اهـ. وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ لَا يَنْتَفِي وُقُوعُ الْمِلْكِ لِمَوْلَاهُ بِهَذَا الْعَارِضِ وَهُوَ الْمَانِعُ، وَغَايَةُ مَا فِي هَذَا الْوُجُوبِ كِفَايَتُهُ عَنْ السَّيِّدِ وَتَأْثِيمُهُ بِتَرْكِهِ وَاسْتِحْبَابُ الصَّدَقَةِ النَّافِلَةِ عَلَيْهِ، وَقَدْ يُجَابُ بِأَنَّهُ عِنْدَ غَيْبَةِ مَوْلَاهُ الْغَنِيِّ وَعَدَمِ قُدْرَتِهِ عَلَى الْكَسْبِ لَا يَنْزِلُ عَنْ حَالِ ابْنِ السَّبِيلِ.
قولهُ: (وَلَا إلَى وَلَدِ غَنِيٍّ إذَا كَانَ صَغِيرًا) وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ فِي عِيَالِ الْأَبِ أَوْ لَا فِي الصَّحِيحِ، وَفِي الْفَتَاوَى: لَوْ دَفَعَ الزَّكَاةَ إلَى ابْنَةِ غَنِيٍّ يَجُوزُ فِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَهُوَ قول أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَكَذَا إذَا دَفَعَ إلَى فَقِيرٍ لَهُ ابْنٌ مُوسِرٌ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ إنْ كَانَ فِي عِيَالٍ الْغَنِيُّ لَا يَجُوزُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ جَازَ.
قولهُ: (وَإِنْ كَانَتْ نَفَقَتُهُ عَلَيْهِ) بِأَنْ كَانَ زَمِنًا أَوْ أَعْمَى وَنَحْوَهُ بِخِلَافِ بِنْتِ الْغَنِيِّ الْكَبِيرَةِ فَإِنَّهَا تَسْتَوْجِبُ النَّفَقَةَ عَلَى الْأَبِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِهَا هَذِهِ الْأَعْذَارُ وَتُصْرَفُ الزَّكَاةُ إلَيْهَا لِمَا ذُكِرَ فِي الِابْنِ الْكَبِيرِ.
قولهُ: (وَبِخِلَافِ امْرَأَةٍ إلَخْ) هَذَا ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ، وَسَوَاءٌ فَرَضَ لَهَا النَّفَقَةَ أَوْ لَا. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ لَا يُجْزِئُهُ لِأَنَّهَا مَكْفِيَّةٌ بِمَا تُوجِبُهُ عَلَى الْغَنِيِّ فَالصَّرْفُ إلَيْهَا كَالصَّرْفِ إلَى ابْنِ الْغَنِيِّ. وَجْهُ الظَّاهِرِ مَا فِي الْكِتَابِ. وَالْفَرْقُ أَنَّ اسْتِيجَابَهَا النَّفَقَةَ بِمَنْزِلَةِ الْأُجْرَةِ، بِخِلَافِ وُجُوبِ نَفَقَةِ الْوَلَدِ الصَّغِيرِ، لِأَنَّهُ مُسَبَّبٌ عَنْ الْجُزْئِيَّةِ فَكَانَ كَنَفَقَةِ نَفْسِهِ، فَالدَّفْعُ إلَيْهِ كَالدَّفْعِ إلَى نَفْسِ الْغَنِيِّ.

متن الهداية:
(وَلَا يَدْفَعُ إلَى بَنِي هَاشِمٍ) لِقولهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسلام: «يَا بَنِي هَاشِمٍ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَرَّمَ عَلَيْكُمْ غُسَالَةَ النَّاسِ وَأَوْسَاخِهِمْ وَعَوَّضَكُمْ مِنْهَا بِخُمْسِ الْخُمْسِ» بِخِلَافِ التَّطَوُّعِ، لِأَنَّ الْمَالَ هَاهُنَا كَالْمَاءِ يَتَدَنَّسُ بِإِسْقَاطِ الْفَرْضِ. أَمَّا التَّطَوُّعُ فَبِمَنْزِلَةِ التَّبَرُّدِ بِالْمَاءِ. قَالَ: (وَهُمْ آلُ عَلِيٍّ وَآلُ عَبَّاسٍ وَآلُ جَعْفَرٍ وَآلُ عَقِيلٍ وَآلُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَمَوَالِيهِمْ) أَمَّا هَؤُلَاءِ فَلِأَنَّهُمْ يُنْسَبُونَ إلَى بَنِي هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ وَنِسْبَةُ الْقَبِيلَةِ إلَيْهِ. وَأَمَّا مَوَالِيهِمْ فَلِمَا رُوِيَ «أَنَّ مَوْلًى لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلَهُ أَتَحِلُّ لِي الصَّدَقَةُ؟ فَقَالَ: لَا أَنْتَ مَوْلَانَا» بِخِلَافِ مَا إذَا أَعْتَقَ الْقُرَشِيُّ عَبْدًا نَصْرَانِيًّا حَيْثُ تُؤْخَذُ مِنْهُ الْجِزْيَةُ وَيُعْتَبَرُ حَالُ الْمُعْتَقِ لِأَنَّهُ الْقِيَاسُ وَالْإِلْحَاقُ بِالْمَوْلَى بِالنَّصِّ وَقَدْ خَصَّ الصَّدَقَةَ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَلَا يَدْفَعُ إلَى بَنِي هَاشِمٍ) هَذَا ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ، وَرَوَى أَبُو عِصْمَةَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَجُوزُ فِي هَذَا الزَّمَانِ وَإِنْ كَانَ مُمْتَنِعًا فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ. وَعَنْهُ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَدْفَعَ بَعْضُ بَنِي هَاشِمٍ إلَى بَعْضٍ زَكَاتَهُمْ. وَظَاهِرُ لَفْظِ الْمَرْوِيِّ فِي الْكِتَابِ، وَهُوَ قولهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسلام: «يَا بَنِي هَاشِمٍ إنَّ اللَّهَ كَرِهَ لَكُمْ غُسَالَةَ أَيْدِي النَّاسِ وَأَوْسَاخِهِمْ وَعَوَّضَكُمْ مِنْهَا بِخُمْسِ الْخُمْسِ» لَا يَنْفِيهِ لِلْقَطْعِ بِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ النَّاسِ غَيْرُهُمْ لِأَنَّهُمْ الْمُخَاطَبُونَ بِالْخِطَابِ الْمَذْكُورِ عَنْ آخِرِهِمْ، وَالتَّعْوِيضُ بِخُمْسِ الْخُمْسِ عَنْ صَدَقَاتِ النَّاسِ لَا يَسْتَلْزِمُ كَوْنُهُ عِوَضًا عَنْ صَدَقَاتِ أَنْفُسِهِمْ، لَكِنَّ هَذَا اللَّفْظَ غَرِيبٌ، وَالْمَعْرُوفُ مَا فِي مُسْلِمٍ عَنْ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ قَالَ: «اجْتَمَعَ رَبِيعَةُ وَالْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَقَالَا: لَوْ بَعَثْنَا هَذَيْنِ الْغُلَامَيْنِ لِي وَلِلْفَضْلِ بْنِ الْعَبَّاسِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَّرَهُمَا عَلَى هَذِهِ الصَّدَقَةِ فَأَصَابَا مِنْهَا كَمَا يُصِيبُ النَّاسُ، فَقَالَ عَلِيٌّ: لَا تُرْسِلُوهُمَا فَانْطَلَقْنَا حَتَّى دَخَلْنَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَوْمَئِذٍ عِنْدَ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ بَلَغْنَا النِّكَاحَ وَأَنْتَ أَبَرُّ النَّاسِ وَأَوْصَلُ النَّاسِ، وَجِئْنَاكَ لِتُؤَمِّرَنَا عَلَى هَذِهِ الصَّدَقَاتِ فَنُؤَدِّيَ إلَيْكَ كَمَا تُؤَدِّي النَّاسُ وَنُصِيبُ كَمَا يُصِيبُونَ، قَالَ: فَسَكَتَ طَوِيلًا ثُمَّ قَالَ: إنَّ الصَّدَقَةَ لَا تَنْبَغِي لِآلِ مُحَمَّدٍ إنَّمَا هِيَ أَوْسَاخُ النَّاسِ، اُدْعُوا لِي مَحْمِيَّةَ بْنَ جَزْءٍ، رَجُلًا مِنْ بَنِي أَسَدٍ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَعْمِلُهُ عَلَى الْأَخْمَاسِ، وَنَوْفَلَ بْنَ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَأَتَيَاهُ فَقَالَ لِمَحْمِيَّةَ:
أَنْكِحْ هَذَا الْغُلَامَ ابْنَتَكَ لِلْفَضْلِ بْنِ الْعَبَّاسِ، فَأَنْكَحَهُ، وَقَالَ لِنَوْفَلِ بْنِ الْحَارِثِ: أَنْكِحْ هَذَا الْغُلَامَ ابْنَتَكَ، فَأَنْكَحَنِي، وَقَالَ لِمَحْمِيَّةَ: أَصْدِقْ عَنْهُمَا مِنْ الْخُمْسِ كَذَا وَكَذَا»
. وَهَذَا مَا وَعَدْنَاك مِنْ النَّصِّ عَلَى عَدَمِ حِلِّ أَخْذِهَا لِلْعَامِلِ الْهَاشِمِيِّ، وَلَا يَجِبُ فِيهِ حَمْلُ النَّاسِ عَلَى غَيْرِهِمْ بِخِلَافِ لَفْظِ الْهِدَايَةِ، وَلَفْظُهُ لِلطَّبَرَانِيِّ «لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ مِنْ الصَّدَقَاتِ شَيْءٌ إنَّمَا هِيَ غُسَالَةُ أَيْدِي النَّاسِ، وَإِنَّ لَكُمْ فِي خُمْسِ الْخُمْسِ مَا يُغْنِيكُمْ» يُوجِبُ تَحْرِيمَ صَدَقَةِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ. وَكَذَا مَا رَوَى الْبُخَارِيُّ «عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نَحْنُ أَهْلُ الْبَيْتِ لَا تَحِلُّ لَنَا الصَّدَقَةُ» ثُمَّ لَا يَخْفَى أَنَّ هَذِهِ الْعُمُومَاتِ تَنْتَظِمُ الصَّدَقَةَ النَّافِلَةَ وَالْوَاجِبَةَ فَجَرَوْا عَلَى مُوجِبِ ذَلِكَ فِي الْوَاجِبِ، فَقَالُوا: لَا يَجُوزُ صَرْفُ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ وَالظِّهَارِ وَالْقَتْلِ وَجَزَاءِ الصَّيْدِ وَعُشْرِ الْأَرْضِ وَغَلَّةِ الْوَقْفِ إلَيْهِمْ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ: يَجُوزُ فِي غَلَّةِ الْوَقْفِ إذَا كَانَ الْوَقْفُ عَلَيْهِمْ لِأَنَّهُمْ حِينَئِذٍ بِمَنْزِلَةِ الْوَقْفِ عَلَى الْأَغْنِيَاءِ فَإِنْ كَانَ عَلَى الْفُقَرَاءِ وَلَمْ يُسَمِّ بَنِي هَاشِمٍ لَا يَجُوزُ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَطْلَقَ فِي مَنْعِ صَدَقَةِ الْأَوْقَافِ لَهُمْ، وَعَلَى الْأَوَّلِ إذَا وَقَفَ عَلَى الْأَغْنِيَاءِ يَجُوزُ الصَّرْفُ إلَيْهِمْ، وَأَمَّا الصَّدَقَةُ النَّافِلَةُ فِي النِّهَايَةِ: وَيَجُوزُ النَّفَلُ بِالْإِجْمَاعِ وَكَذَا يَجُوزُ النَّفَلُ لِلْغَنِيِّ، كَذَا فِي فَتَاوَى الْعَتَّابِيِّ انْتَهَى. وَصَرَّحَ فِي الْكَافِي بِدَفْعِ صَدَقَةِ الْوَقْفِ إلَيْهِمْ عَلَى أَنَّهُ بَيَانُ الْمَذْهَبِ مِنْ غَيْرِ نَقْلِ خِلَافٍ، فَقَالَ: وَأَمَّا التَّطَوُّعُ وَالْوَقْفُ فَيَجُوزُ الصَّرْفُ إلَيْهِمْ لِأَنَّ الْمُؤَدِّيَ فِي الْوَاجِبِ يُطَهِّرُ نَفْسَهُ بِإِسْقَاطِ الْفَرْضِ فَيَتَدَنَّسُ الْمُؤَدَّى كَالْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ، وَفِي النَّفْلِ يَتَبَرَّعُ بِمَا لَيْسَ عَلَيْهِ فَلَا يَتَدَنَّسُ بِهَا الْمُؤَدَّى كَمَنْ تَبَرَّدَ بِالْمَاءِ اهـ. وَالْحَقُّ الَّذِي يَقْتَضِيهِ النَّظَرُ إجْرَاءُ صَدَقَةِ الْوَقْفِ مَجْرَى النَّافِلَةِ، فَإِنْ ثَبَتَ فِي النَّافِلَةِ جَوَازُ الدَّفْعِ يَجِبُ دَفْعُ الْوَقْفِ وَإِلَّا فَلَا إذْ لَا شَكَّ فِي أَنَّ الْوَاقِفَ مُتَبَرِّعٌ بِتَصَدُّقِهِ بِالْوَقْفِ إذْ لَا إيقَافَ وَاجِبٌ، وَكَأَنَّ مَنْشَأَ الْغَلَطِ وُجُوبُ دَفْعِهَا عَلَى النَّاظِرِ وَبِذَلِكَ لَمْ تَصِرْ وَاجِبَةً عَلَى الْمَالِكِ بَلْ غَايَةُ الْأَمْرِ أَنَّهُ وُجُوبُ اتِّبَاعِ شَرْطِ الْوَاقِفِ عَلَى النَّاظِرِ. فَوُجُوبُ الْأَدَاءِ هُوَ نَفْسُ هَذَا الْوُجُوبِ فَلْنَتَكَلَّمْ فِي النَّافِلَةِ، ثُمَّ يُعْطَى مِثْلُهُ لِلْوَقْفِ فَفِي شَرْحِ الْكَنْزِ لَا فَرْقَ بَيْنَ الصَّدَقَةِ الْوَاجِبَةِ وَالتَّطَوُّعِ. ثُمَّ قَالَ: وَقَالَ بَعْضٌ: يَحِلُّ لَهُمْ التَّطَوُّعُ.اهـ. فَقَدْ أَثْبَتَ الْخِلَافَ عَلَى وَجْهٍ يُشْعِرُ بِتَرْجِيحِ حُرْمَةِ النَّافِلَةِ وَهُوَ الْمُوَافِقُ لِلْعُمُومَاتِ فَوَجَبَ اعْتِبَارُهُ فَلَا يَدْفَعُ إلَيْهِمْ النَّافِلَةَ إلَّا عَلَى وَجْهِ الْهِبَةِ مَعَ الْأَدَبِ وَخَفْضِ الْجَنَاحِ تَكْرِمَةً لِأَهْلِ بَيْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَقْرَبُ الْأَشْيَاءِ إلَيْكَ حَدِيثُ «لَحْمِ بَرِيرَةَ الَّذِي تُصُدِّقَ بِهِ عَلَيْهَا لَمْ يَأْكُلْهُ حَتَّى اعْتَبَرَهُ هَدِيَّةً مِنْهَا، فَقَالَ هُوَ عَلَيْهَا صَدَقَةٌ وَلَنَا مِنْهَا هَدِيَّةٌ» وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا كَانَتْ صَدَقَةً نَافِلَةً. وَأَيْضًا لَا تَخْصِيصَ لِلْعُمُومَاتِ إلَّا بِدَلِيلٍ. وَالْقِيَاسُ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ لَا يَخُصُّ بِهِ ابْتِدَاءً بَلْ بَعْدَ إخْرَاجِ شَيْءٍ بِسَمْعِيٍّ سَلَّمْنَاهُ، لَكِنْ لَا يَتِمُّ فِي الْقِيَاسِ الْمَقْصُودُ وَغَيْرُ الْمَقْصُودِ. وَأَمَّا الثَّانِي لَمْ يَتِمَّ لَهُ أَصْلٌ صَحِيحٌ، وَقولهُ الْمَالُ هُنَا كَالْمَاءِ يَتَدَنَّسُ بِإِسْقَاطِ الْفَرْضِ ظَاهِرُهُ أَنَّ الْمَاءَ أَصْلٌ، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ إذْ حُكْمُ الْأَصْلِ لَا بُدَّ مِنْ كَوْنِهِ مَنْصُوصًا عَلَيْهِ أَوْ مُجْمَعًا، وَلَيْسَ ثُبُوتُ هَذَا الْحُكْمِ لِلْمَاءِ كَذَلِكَ بَلْ الْمَالُ هُوَ الْمَنْصُوصُ عَلَى حُكْمِهِ هَذَا مِنْ التَّدَنُّسِ فَهُوَ أَصْلٌ لِلْمَاءِ فِي ذَلِكَ. فَإِثْبَاتُ مِثْلِهِ شَرْعًا لِلْمَاءِ إنَّمَا هُوَ بِالْقِيَاسِ عَلَى الْمَالِ، إذْ لَا نَصَّ فِي الْمَاءِ، وَنَفْسُ الْمُصَنِّفِ مَشَى عَلَى الصَّوَابِ فِي ذَلِكَ فِي بَحْثِ الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ حَيْثُ قَالَ فِي وَجْهِ الرِّوَايَةِ الْمُخْتَارَةِ لِلْفَتْوَى إلَّا أَنَّهُ يَعْنِي الْمَاءَ أُقِيمَتْ بِهِ قُرْبَةٌ فَتَغَيَّرَتْ صِفَتُهُ كَمَالِ الصَّدَقَةِ فَجَعَلَ مَالَ الصَّدَقَةِ أَصْلًا فَكَيْفَ يَجْعَلُ هُنَا الْمَاءَ أَصْلًا لِمَالِ الصَّدَقَةِ. وَأَمَّا الْقِيَاسُ الْمَقْصُودُ هُنَا فِي قولهِ التَّطَوُّعُ بِالصَّدَقَةِ بِمَنْزِلَةِ التَّبَرُّدِ بِالْمَاءِ غَيْرُ صَحِيحٍ، فَإِنَّهُ إلْحَاقُ قُرْبَةٍ بِغَيْرِ قُرْبَةٍ، وَالصَّوَابُ فِي الْإِلْحَاقِ أَنْ يُقَالَ بِمَنْزِلَةِ الْوُضُوءِ عَلَى الْوُضُوءِ لِيَكُونَ إلْحَاقُ قُرْبَةِ نَافِلَةٍ بِقِرْبَةِ نَافِلَةٍ، وَبَعْدَ هَذَا إنْ ادَّعَى أَنَّ حُكْمَ الْأَصْلِ عَدَمُ تَدَنُّسِ مَا أُقِيمَ بِهِ هَذِهِ الْقُرْبَةُ مَنَعْنَا حُكْمَ الْأَصْلِ فَإِنَّ التَّدَنُّسَ لِلْآلَةِ بِوَاسِطَةِ خُرُوجِ الْأَثَامِ وَإِزَالَةِ الظُّلْمَةِ، وَالْقُرْبَةُ النَّافِلَةُ تُفِيدُ ذَلِكَ أَيْضًا بِقَدْرِهِ. وَقَدْ قَالُوا فِي قولهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسلام: «الْوُضُوءُ عَلَى الْوُضُوءِ نُورٌ عَلَى نُورٍ» أَنَّهُ يُفِيدُ إزَالَةَ الظُّلْمَةِ بِقَدْرِ إفَادَةِ زِيَادَةِ ذَلِكَ النُّورِ، وَلِهَذَا كَانَ الْمَذْهَبُ أَنَّ الْوُضُوءَ النَّفَلَ إذَا كَانَ مَنْوِيًّا يَصِيرُ الْمَاءُ بِهِ مُسْتَعْمَلًا عَلَى مَا عُرِفَ فِي قولهِ الْمُسْتَعْمَلُ: هُوَ مَا أُزِيلَ بِهِ حَدَثٌ أَوْ اُسْتُعْمِلَ فِي الْبَدَنِ عَلَى وَجْهِ الْقُرْبَةِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قولهُ: (وَهُمْ آلُ عَلِيٍّ إلَخْ) لَمَّا كَانَ الْمُرَادُ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ الَّذِينَ لَهُمْ الْحُكْمُ الْمَذْكُورُ لَيْسَ كُلُّهُمْ بَيَّنَ الْمُرَادَ مِنْهُمْ بِعَدَدِهِمْ فَخَرَجَ أَبُو لَهَبٍ بِذَلِكَ حَتَّى يَجُوزَ الدَّفْعُ إلَى بَنِيهِ لِأَنَّ حُرْمَةَ الصَّدَقَةِ لِبَنِي هَاشِمٍ كَرَامَةٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى لَهُمْ وَلِذُرِّيَّتِهِمْ حَيْثُ نَصَرُوهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي جَاهِلِيَّتِهِمْ وَإِسْلَامِهِمْ وَأَبُو لَهَبٍ كَانَ حَرِيصًا عَلَى أَذَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَسْتَحِقَّهَا بِنُورِهِ.
قولهُ: (وَأَمَّا مَوَالِيهِمْ فَلِمَا رُوِيَ إلَخْ) أَخْرَجَ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ عَنْ ابْنِ أَبِي رَافِعٍ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ رَجُلًا مِنْ بَنِي مَخْزُومٍ عَلَى الصَّدَقَةِ، فَقَالَ لِأَبِي رَافِعٍ: اصْحَبْنِي فَإِنَّكَ تُصِيبُ مِنْهَا، قَالَ: حَتَّى آتِيَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَسْأَلُهُ، فَأَتَاهُ فَسَأَلَهُ، فَقَالَ: مَوْلَى الْقَوْمِ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، وَإِنَّا لَا تَحِلُّ لَنَا الصَّدَقَةُ» قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَكَذَا صَحَّحَهُ الْحَاكِمُ، وَأَبُو رَافِعٍ هَذَا اسْمُهُ أَسْلَمَ، وَاسْمُ ابْنِهِ عُبَيْدُ اللَّهِ وَهُوَ كَاتِبُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
قولهُ: (وَقَدْ خَصَّ الصَّدَقَةَ) يَعْنِي فَيَبْقَى فِيمَا رَوَاهُ عَلَى الْقِيَاسِ فَتُؤْخَذُ مِنْهُ الْجِزْيَةُ وَلَا يَكُونُ كُفْئًا لَهُمْ.

متن الهداية:
(قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ: إذَا دَفَعَ الزَّكَاةَ إلَى رَجُلٍ يَظُنُّهُ فَقِيرًا ثُمَّ بَانَ أَنَّهُ غَنِيٌّ أَوْ هَاشِمِيٌّ أَوْ كَافِرٌ أَوْ دَفَعَ فِي ظُلْمَةٍ فَبَانَ أَنَّهُ أَبُوهُ أَوْ ابْنُهُ فَلَا إعَادَةَ عَلَيْهِ. قَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ) لِظُهُورِ خَطَئِهِ بِيَقِينٍ وَإِمْكَانِ الْوُقُوفِ عَلَى هَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَصَارَ كَالْأَوَانِي وَالثِّيَابِ. وَلَهُمَا حَدِيثُ مَعْنِ بْنِ يَزِيدَ فَإِنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ فِيه: «يَا يَزِيدُ لَكَ مَا نَوَيْتَ، وَيَا مَعْنُ لَكَ مَا أَخَذْتَ» وَقَدْ دَفَعَ إلَيْهِ وَكِيلُ أَبِيهِ صَدَقَتَهُ؛ وَلِأَنَّ الْوُقُوفَ عَلَى هَذِهِ الْأَشْيَاءِ بِالِاجْتِهَادِ دُونَ الْقَطْعِ فَيَبْتَنِي الْأَمْرُ فِيهَا عَلَى مَا يَقَعُ عِنْدَهُ كَمَا إذَا اشْتَبَهَتْ عَلَيْهِ الْقِبْلَةُ، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي غَيْرِ الْغَنِيِّ أَنَّهُ لَا يَجْزِيهِ، وَالظَّاهِرُ هُوَ الْأَوَّلُ. وَهَذِهِ إذَا تَحَرَّى فَدَفَعَ وَفِي أَكْبَرِ رَأْيِهِ أَنَّهُ مَصْرِفٌ، أَمَّا إذَا شَكَّ وَلَمْ يَتَحَرَّ أَوْ تَحَرَّى فَدَفَعَ، وَفِي أَكْبَرِ رَأْيِهِ أَنَّهُ لَيْسَ بِمَصْرِفٍ لَا يَجْزِيهِ إلَّا إذَا عَلِمَ أَنَّهُ فَقِيرٌ هُوَ الصَّحِيحُ، وَلَوْ دَفَعَ إلَى شَخْصٍ ثُمَّ عَلِمَ أَنَّهُ عَبْدُهُ أَوْ مُكَاتَبُهُ لَا يُجْزِيهِ لِانْعِدَامِ التَّمْلِيكِ لِعَدَمِ أَهْلِيَّةِ الْمِلْكِ وَهُوَ الرُّكْنُ عَلَى مَا مَرَّ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (لِانْعِدَامِ التَّمْلِيكِ) فَهُوَ عَلَى مِلْكِهِ كَمَا كَانَ وَلَهُ حَقٌّ فِي كَسْبِ مُكَاتَبِهِ فَلَمْ يَتِمَّ التَّمْلِيكُ بِخِلَافِ الدَّفْعِ لِمَنْ ظَهَرَ غِنَاهُ وَأَخَوَاتُهُ.
قولهُ: (وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ: عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ) وَلَكِنْ لَا يَسْتَرِدُّ مَا أَدَّاهُ، وَهَلْ يَطِيبُ لِلْقَابِضِ إذَا ظَهَرَ الْحَالُ، وَلَا رِوَايَةَ فِيهِ، وَاخْتُلِفَ فِيهِ، وَعَلَى الْقول بِأَنَّهُ لَا يَطِيبُ يَتَصَدَّقُ بِهِ. وَقِيلَ: يَرُدُّهُ عَلَى الْمُعْطِي عَلَى وَجْهِ التَّمْلِيكِ مِنْهُ لِيُعِيدَ الْأَدَاءَ.
قولهُ: (وَصَارَ كَالْأَوَانِي) يُفِيدُ أَنَّهُ مَأْخُوذٌ فِي صُورَةِ الْخِلَافِيَّةِ كَوْنُ الْأَدَاءِ بِالتَّحَرِّي وَإِلَّا قَالَ: وَصَارَ كَالْمَاءِ وَالثِّيَابِ: يَعْنِي إذَا تَحَرَّى فِي الْأَوَانِي فِي مَوْضِعٍ يَجُوزُ التَّحَرِّي فِيهَا بِأَنْ كَانَتْ الْغَلَبَةُ لِلطَّاهِرَةِ مِنْهَا أَوْ فِي الثِّيَابِ، وَلَهُ أَنْ يَتَحَرَّى فِيهَا وَإِنْ كَانَ الطَّاهِرُ مَغْلُوبًا فَوَقَعَ تَحَرِّيهِ عَلَى إنَاءٍ أَوْ ثَوْبٍ فِيهِ وَتَوَضَّأَ مِنْهُ ثُمَّ ظَهَرَ نَجَاسَتُهُ يُعِيدُ اتِّفَاقًا فَكَذَا هَذَا، وَمِثْلُهُ مَا إذَا قَضَى الْقَاضِي بِاجْتِهَادِهِ ثُمَّ ظَهَرَ نَصٌّ بِخِلَافِهِ، وَلَهُمَا حَدِيثُ مَعْنٍ، وَهُوَ مَا أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ عَنْ مَعْنِ بْنِ يَزِيدَ قال: «بَايَعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَا وَأَبِي وَجَدِّي، وَخَطَبَ عَلِيٌّ فَأَنْكَحَنِي وَخَاصَمْتُ إلَيْهِ، وَكَانَ أَبِي يَزِيدُ أَخْرَجَ دَنَانِيرَ يَتَصَدَّقُ بِهَا فَوَضَعَهَا عِنْدَ رَجُلٍ فِي الْمَسْجِدِ، فَجِئْتُ فَأَخَذْتُهَا فَأَتَيْتُهُ بِهَا، فَقَالَ: وَاَللَّهِ مَا إيَّاكَ أَرَدْتُ، فَخَاصَمْتُهُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: لَكَ مَا نَوَيْتَ يَا يَزِيدُ وَلَكَ مَا أَخَذْتَ يَا مَعْنُ».اهـ. وَهُوَ وَإِنْ كَانَ وَاقِعَةَ حَالٍ يَجُوزُ فِيهَا كَوْنُ تِلْكَ الصَّدَقَةِ كَانَتْ نَفْلًا، لَكِنَّ عُمُومَ لَفْظِ مَا فِي قولهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسلام: «لَكَ مَا نَوَيْتَ» يُفِيدُ الْمَطْلُوبَ، وَلِأَنَّ الْوُقُوفَ عَلَى هَذِهِ الْأَشْيَاءِ إنَّمَا هُوَ بِالِاجْتِهَادِ لَا الْقَطْعِ فَيُبْنَى الْأَمْرُ عَلَى مَا يَقَعُ عِنْدَهُ كَمَا إذَا اشْتَبَهَتْ عَلَيْهِ الْقِبْلَةُ، وَلَوْ أَمَرْنَاهُ بِالْإِفَادَةِ كَانَ بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى مِنْ الِاجْتِهَادِ، وَلَوْ فُرِضَ تَكَرُّرُ خَطَئِهِ فَتَكَرَّرَتْ الْإِعَادَةُ أَفْضَى إلَى الْحَرَجِ لِإِخْرَاجِ كُلِّ مَالِهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الزَّكَاةُ خُصُوصًا مَعَ كَوْنِ الْحَرَجِ مَدْفُوعًا شَرْعًا عُمُومًا بِخِلَافِ نَجَاسَةِ الْمَاءِ وَوُجُودِ النَّصِّ فَإِنَّهُ مِمَّا يُوقَفُ عَلَى حَقِيقَتِهِ بِالْأَخْبَارِ.
قولهُ: (وَهَذَا إذَا تَحَرَّى إلَخْ) تَحْرِيرٌ لِمَحَلِّ النِّزَاعِ، وَحَاصِلُ وُجُوهِ الْمَسْأَلَةِ ثَلَاثَةٌ: دَفَعَ لِشَخْصٍ مِنْ غَيْرِ شَكٍّ وَلَا تَحَرٍّ فَهُوَ عَلَى الْجَوَازِ إلَّا أَنْ يَظْهَرَ غِنَاهُ مَثَلًا فَيُعِيدُ، وَإِنْ شَكَّ فَلَمْ يَتَحَرَّ وَدَفَعَ أَوْ تَحَرَّى فَغَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ غِنَاهُ وَدَفَعَ لَمْ يَجُزْ حَتَّى يَظْهَرَ أَنَّهُ مَصْرِفٌ فَيُجْزِيهِ فِي الصَّحِيحِ، وَظَنَّ بَعْضُهُمْ أَنَّهَا كَمَسْأَلَةِ الصَّلَاةِ حَالَةَ الِاشْتِبَاهِ إلَى غَيْرِ جِهَةِ التَّحَرِّي فَإِنَّهَا لَا تَجُوزُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَإِنَّ ظَهَرَ صَوَابُهُ، وَالْحَقُّ الِاتِّفَاقُ عَلَى الْجَوَازِ هُنَا، وَالْفَرْقُ أَنَّ الصَّلَاةَ إلَى تِلْكَ الْجِهَةِ مَعْصِيَةٌ لِتَعَمُّدِهِ الصَّلَاةَ إلَى غَيْرِ جِهَةِ الْقِبْلَةِ إذْ هِيَ التَّحَرِّي، حَتَّى قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ: أَخْشَى عَلَيْهِ الْكُفْرَ، فَلَا تَنْقَلِبُ طَاعَةً، وَهُنَا نَفْسُ الْإِعْطَاءِ لَا يَكُونُ بِهِ عَاصِيًا فَصَلُحَ وُقُوعُهُ مُسْقِطًا إذَا ظَهَرَ صَوَابُهُ. الثَّالِثُ: إذَا شَكَّ فَتَحَرَّى فَظَنَّهُ مَصْرِفًا فَدَفَعَ فَظَهَرَ خِلَافُهُ، وَهِيَ الْخِلَافِيَّةُ.

متن الهداية:
(وَلَا يَجُوزُ دَفْعُ الزَّكَاةِ إلَى مَنْ يَمْلِكُ نِصَابًا مِنْ أَيِّ مَالٍ كَانَ) لِأَنَّ الْغِنَى الشَّرْعِيَّ مُقَدَّرٌ بِهِ، وَالشَّرْطُ أَنْ يَكُونَ فَاضِلًا عَنْ الْحَاجَةِ الْأَصْلِيَّةِ وَإِنَّمَا شَرَطَ الْوُجُوبَ (وَيَجُوزُ دَفْعُهَا إلَى مَنْ يَمْلِكُ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ صَحِيحًا مُكْتَسِبًا) لِأَنَّهُ فَقِيرٌ وَالْفُقَرَاءُ هُمْ الْمَصَارِفُ، وَلِأَنَّ حَقِيقَةَ الْحَاجَةِ لَا يُوقَفُ عَلَيْهَا فَأُدِيرَ الْحُكْمُ عَلَى دَلِيلِهَا وَهُوَ فَقْدُ النِّصَابِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَلَا يَجُوزُ دَفْعُ الزَّكَاةِ لِمَنْ يَمْلِكُ نِصَابًا مِنْ أَيِّ مَالٍ كَانَ) مِنْ فُرُوعِهَا: قَوْمٌ دَفَعُوا الزَّكَاةَ إلَى مَنْ يَجْمَعُهَا لِفَقِيرٍ فَاجْتَمَعَ عِنْدَ الْآخِذِ أَكْثَرَ مِنْ مِائَتَيْنِ فَإِنْ كَانَ جَمَعَهُ لَهُ بِأَمْرِهِ، قَالُوا: كُلُّ مَنْ دَفَعَ قَبْلَ أَنْ يَبْلُغَ مَا فِي يَدِ الْجَانِي مِائَتَيْنِ جَازَتْ زَكَاتُهُ، وَمَنْ دَفَعَ بَعْدَهُ لَا تَجُوزُ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْفَقِيرُ مَدْيُونًا فَيُعْتَبَرُ هَذَا التَّفْصِيلُ فِي مِائَتَيْنِ تَفْضُلُ بَعْدَ دَيْنِهِ، فَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ أَمْرِهِ جَازَ الْكُلُّ مُطْلَقًا لِأَنَّ فِي الْأَوَّلِ هُوَ وَكِيلٌ عَنْ الْفَقِيرِ فَمَا اجْتَمَعَ عِنْدَهُ يَمْلِكُهُ، وَفِي الثَّانِي وَكِيلُ الدَّافِعِينَ فَمَا اجْتَمَعَ عِنْدَهُ مِلْكُهُمْ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ فِيمَنْ أَرَادَ أَنْ يُعْطِيَ فَقِيرًا أَلْفًا وَلَا دَيْنَ عَلَيْهِ فَوَزَنَهَا مِائَةً مِائَةً وَقَبَضَهَا كَذَلِكَ يُجْزِيهِ كُلُّ الْأَلْفِ مِنْ الزَّكَاةِ إذَا كَانَتْ كُلُّهَا حَاضِرَةً فِي الْمَجْلِسِ وَدَفَعَ كُلَّهَا فِيهِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ دَفَعَهَا جُمْلَةً، وَلَوْ كَانَتْ غَائِبَةً فَاسْتَدْعَى بِهَا مِائَةً مِائَةً كُلَّمَا حَضَرَتْ مِائَةٌ دَفَعَهَا إلَيْهِ لَا يَجُوزُ مِنْهَا إلَّا مِائَتَانِ وَالْبَاقِي تَطَوُّعٌ.
قولهُ: (وَالشَّرْطُ أَنْ يَكُونَ فَاضِلًا عَنْ الْحَاجَةِ) أَمَّا إذَا كَانَ لَهُ نِصَابٌ لَيْسَ نَامِيًا وَهُوَ مُسْتَغْرَقٌ بِحَوَائِجِهِ الْأَصْلِيَّةِ فَيَجُوزُ الدَّفْعُ إلَيْهِ كَمَا قَدَّمْنَا فِيمَنْ يَمْلِكُ كُتُبًا تُسَاوِي نِصَابًا، وَهُوَ عَالِمٌ يَحْتَاجُ إلَيْهَا أَوْ هُوَ جَاهِلٌ لَا حَاجَةَ لَهُ بِهَا، فِيمَنْ لَهُ آلَاتٌ وَفَرَسٌ وَدَارٌ وَعَبْدٌ يَحْتَاجُهَا لِلْخِدْمَةِ وَالِاسْتِعْمَالِ أَوْ كَانَ لَهُ نِصَابٌ نَامٍ إلَّا أَنَّهُ مَشْغُولٌ بِالدَّيْنِ، وَعَنْهُ مَا ذُكِرَ فِي الْمَبْسُوطِ: رَجُلٌ لَهُ أَلْفٌ وَعَلَيْهِ أَلْفٌ وَلَهُ دَارٌ وَخَادِمٌ لِغَيْرِ التِّجَارَةِ تُسَاوِي عَشَرَةَ آلَافٍ لَا زَكَاةَ عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ فِي الْكِتَابِ: أَرَأَيْت لَوْ تَصَدَّقَ عَلَيْهِ أَلَمْ يَكُنْ مَوْضِعًا لِلصَّدَقَةِ، وَفِي الْفَتَاوَى: لَوْ كَانَ لَهُ حَوَانِيتُ أَوْ دَارُ غَلَّةٍ تُسَاوِي ثَلَاثَةَ آلَافٍ وَغَلَّتُهَا لَا تَكْفِي لِقُوتِهِ وَقُوتِ عِيَالِهِ يَجُوزُ صَرْفُ الزَّكَاةِ إلَيْهِ فِي قول مُحَمَّدٍ. وَهَذَا التَّخْصِيصُ يُفِيدُ الْخِلَافَ، وَفِي بَابِ صَدَقَةِ الْفِطْرِ مِنْ الْخُلَاصَةِ يُعْتَبَرُ قِيمَةُ الضَّيْعَةِ وَالْكَرْمِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ فَلَعَلَّهُ هُوَ الْخِلَافُ الْمُرَادُ فِي الْفَتَاوَى. وَلَوْ اشْتَرَى قُوتَ سَنَةٍ يُسَاوِي نِصَابًا فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يُعَدُّ نِصَابًا. وَقِيلَ: إنْ كَانَ طَعَامَ شَهْرٍ يُسَاوِي نِصَابًا جَازَ الصَّرْفُ إلَيْهِ لَا إنْ زَادَ، وَلَوْ كَانَ لَهُ كِسْوَةُ الشِّتَاءِ لَا يَحْتَاجُ إلَيْهَا فِي الصَّيْفِ جَازَ الصَّرْفُ، وَيُعْتَبَرُ مِنْ الْمَزَارِعِ مَا زَادَ عَلَى ثَوْرَيْنِ.
قولهُ: (وَإِنْ كَانَ صَحِيحًا مُكْتَسِبًا) وَعِنْدَ غَيْرِ وَاحِدٍ لَا يَجُوزُ لِلْكَسُوبِ لِمَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ قولهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسلام: «لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ وَلَا لِذِي مِرَّةٍ سَوِيٍّ». «وَقولهُ لِلرَّجُلَيْنِ اللَّذَيْنِ سَأَلَاهُ فَرَآهُمَا جَلْدَيْنِ أَمَا إنَّهُ لَا حَقَّ لَكُمَا فِيهَا وَإِنْ شِئْتُمَا أَعْطَيْتُكُمَا». وَالْجَوَابُ أَنَّ الْحَدِيثَ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ حُرْمَةُ سُؤَالِهِمَا لِقوله: «وَإِنْ شِئْتُمَا أَعْطَيْتُكُمَا» وَلَوْ كَانَ الْأَخْذُ مُحَرَّمًا غَيْرَ مُسْقِطٍ عَنْ صَاحِبِ الْمَالِ لَمْ يَفْعَلْهُ.

متن الهداية:
(وَيُكْرَهُ أَنْ يَدْفَعَ إلَى وَاحِدٍ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَصَاعِدًا وَإِنْ دَفَعَ جَازَ) وَقَالَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الْغِنَى قَارَنَ الْأَدَاءَ فَحَصَلَ الْأَدَاءُ إلَى الْغِنَى. وَلَنَا أَنَّ الْغِنَى حُكْمُ الْأَدَاءِ فَيَتَعَقَّبُهُ لَكِنَّهُ يُكْرَهُ لِقُرْبِ الْغِنَى مِنْهُ كَمَنْ صَلَّى وَبِقُرْبِهِ نَجَاسَةٌ (قَالَ: وَأَنْ تُغْنِيَ بِهَا إنْسَانًا أَحَبُّ إلَيَّ) مَعْنَاهُ الْإِغْنَاءُ عَنْ السُّؤَالِ يَوْمَهُ ذَلِكَ لِأَنَّ الْإِغْنَاءَ مُطْلَقًا مَكْرُوهٌ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَيُكْرَهُ أَنْ يَدْفَعَ إلَى وَاحِدٍ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَصَاعِدًا) إلَّا أَنْ يَكُونَ مَدْيُونًا لَا يَفْضُلُ لَهُ بَعْدَ قَضَاءِ دَيْنِهِ نِصَابٌ، أَوْ يَكُونَ مَعِيلًا إذَا وَزَّعَ الْمَأْخُوذَ عَلَى عِيَالِهِ لَمْ يُصِبْ كُلًّا مِنْهُمْ نِصَابٌ وَالْمَسْأَلَةُ ظَاهِرَةٌ حُكْمًا وَدَلِيلًا. وَقولهُ: فَيَتَعَقَّبُهُ صَرِيحٌ فِي حُكْمِ الْعِلَّةِ إيَّاهَا فِي الْخَارِجِ، وَالْأَحَبُّ أَنْ يُغْنِيَ بِهَا فَقِيرًا يَوْمَهُ لِقولهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسلام: «أَغْنُوهُمْ عَنْ الْمَسْأَلَةِ فِي هَذَا الْيَوْمِ» وَالْأَوْجَهُ غَيْرُ هَذَا الْإِطْلَاقِ، بَلْ أَنْ يَنْظُرَ إلَى مَا يَقْتَضِيهِ الْأَحْوَالُ فِي كُلِّ فَقِيرٍ مِنْ عِيَالٍ وَحَاجَةٍ أُخْرَى كَدَيْنٍ وَثَوْبٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَالْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ كَانَ فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ. قَالَ: (وَيُكْرَهُ نَقْلُ الزَّكَاةِ مِنْ بَلَدٍ إلَى بَلَدٍ) وَإِنَّمَا تُفَرَّقُ صَدَقَةُ كُلِّ فَرِيقٍ فِيهِمْ لِمَا رَوَيْنَا مِنْ حَدِيثِ مُعَاذٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَفِيهِ رِعَايَةُ حَقِّ الْجِوَارِ (إلَّا أَنْ يَنْقُلَهَا الْإِنْسَانُ إلَى قَرَابَتِهِ أَوْ إلَى قَوْمٍ هُمْ أَحْوَجُ مِنْ أَهْلِ بَلَدِهِ) لِمَا فِيهِ مِنْ الصِّلَةِ: أَوْ زِيَادَةِ دَفْعِ الْحَاجَةِ، وَلَوْ نَقَلَ إلَى غَيْرِهِمْ أَجْزَأَهُ، وَإِنْ كَانَ مَكْرُوهًا لِأَنَّ الْمَصْرِفَ مُطْلَقُ الْفُقَرَاءِ بِالنَّصِّ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (لِمَا رَوَيْنَا فِيهِ مِنْ حَدِيثِ مُعَاذٍ) وَهُوَ قولهُ فَرُدَّهَا فِي فُقَرَائِهِمْ هَذَا وَالْمُعْتَبَرُ فِي الزَّكَاةِ مَكَانُ الْمَالِ، وَفِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ مَكَانُ الرَّأْسِ الْمُخْرَجِ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ مُرَاعَاةً لِإِيجَابِ الْحُكْمِ فِي مَحَلِّ وُجُودِ سَبَبِهِ، قَالُوا: الْأَفْضَلُ فِي صَرْفِهَا أَنْ يَصْرِفَهَا إلَى إخْوَانِهِ الْفُقَرَاءِ ثُمَّ أَوْلَادِهِمْ ثُمَّ أَعْمَامِهِ الْفُقَرَاءِ ثُمَّ أَخْوَالِهِ ثُمَّ ذَوِي أَرْحَامِهِ ثُمَّ جِيرَانِهِ ثُمَّ أَهْلِ سَكَنِهِ ثُمَّ أَهْلِ مِصْرِهِ.
قولهُ: (إلَّا أَنْ يَنْقُلَهَا) اسْتِثْنَاءٌ مِنْ كَرَاهَةِ النَّقْلِ، وَوَجْهُهُ مَا قَدَّمْنَاهُ فِي مَسْأَلَةِ دَفْعِ الْقِيَمِ مِنْ قول مُعَاذٍ لِأَهْلِ الْيَمَنِ: ائْتُونِي بِعَرْضِ ثِيَابِ خَمِيسٍ أَوْ لَبِيسٍ فِي الصَّدَقَةِ مَكَانَ الذُّرَةِ وَالشَّعِيرِ أَهْوَنُ عَلَيْكُمْ وَخَيْرٌ لِأَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ، وَيَجِبُ كَوْنُ مَحْمَلِهِ كَوْنَ مَنْ بِالْمَدِينَةِ أَحْوَجُ أَوْ ذَلِكَ مَا يَفْضُلُ بَعْدَ إعْطَاءِ فُقَرَائِهِمْ، وَأَمَّا النَّقْلُ لِلْقَرَابَةِ فَلِمَا فِيهِ مِنْ صِلَةِ الرَّحِمِ زِيَادَةً عَلَى قُرْبَةِ الزَّكَاةِ، هَذَا وَيُنَاسِبُ إيلَاءَ الصَّدَقَةِ الْوَاجِبَةِ بِإِيجَابِ اللَّهِ تَعَالَى الصَّدَقَةَ الْوَاجِبَةَ بِإِيجَابِ الْعَبْدِ فَلَا بَأْسَ بِذِكْرِ شَيْءٍ مِنْ أَحْكَامِهَا تَكْمِيلًا لِلْوَضْعِ، تَلْزَمُ الصَّدَقَةُ بِالنَّذْرِ فَإِنْ عَيَّنَ دِرْهَمًا أَوْ فَقِيرًا بِأَنْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَتَصَدَّقَ بِهَذَا الدِّرْهَمِ أَوْ عَلَى هَذَا الْفَقِيرِ لَمْ يَلْزَمْ، فَلَوْ تَصَدَّقَ بِغَيْرِهِ عَلَى غَيْرِهِ خَرَجَ عَنْ الْعُهْدَةِ، وَفِيهِ خِلَافُ زُفَرَ، وَلَوْ نَذَرَ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِخُبْزِ كَذَا وَكَذَا فَتَصَدَّقَ بِقِيمَتِهِ جَازَ، وَلَوْ نَذَرَ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهَذِهِ الدَّرَاهِمِ فَهَلَكَتْ قَبْلَ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهَا لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ غَيْرُهَا وَلَوْ لَمْ تَهْلَكْ فَتَصَدَّقَ بِمِثْلِهَا جَازَ، وَلَوْ قَالَ: كُلُّ مَنْفَعَةٍ تَصِلُ إلَيَّ مِنْ مَالِكَ فَلِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَتَصَدَّقَ بِهَا لَزِمَهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِكُلِّ مَا مَلَكَهُ لَا بِمَا أَبَاحَهُ كَطَعَامٍ أُذِنَ لَهُ أَنْ يَأْكُلَهُ، وَلَوْ قَالَ: إنْ فَعَلْت كَذَا فَمَالِي صَدَقَةٌ فِي الْمَسَاكِينِ لَا يَدْخُلُ مَا لَهُ مِنْ الدُّيُونِ عَلَى النَّاسِ وَدَخَلَ مَا سِوَاهَا. وَهَلْ يَتَقَيَّدُ بِمَالِ الزَّكَاةِ نَذْكُرُهُ فِي آخَرِ كِتَابِ الْحَجِّ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَلَوْ قَالَ: إنْ رَزَقَنِي اللَّهُ مَالًا فَعَلَيَّ زَكَاتُهُ لِكُلِّ مِائَتَيْنِ عَشَرَةٌ لَمْ يَلْزَمْهُ سِوَى خَمْسَةٍ إذَا رُزِقَهُ. وَلَوْ قَالَ: إنْ فَعَلْت كَذَا فَأَلْفُ دِرْهَمٍ مِنْ مَالِي صَدَقَةٌ فَفَعَلَهُ، وَهُوَ لَا يَمْلِكُ إلَّا مِائَةً مَثَلًا الصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ التَّصَدُّقُ إلَّا بِمَا مَلَكَ، لِأَنَّ فِيمَا لَمْ يَمْلِكْ لَمْ يَكُنْ النَّذْرُ مُضَافًا إلَى الْمِلْكِ وَلَا إلَى سَبَبِ الْمِلْكِ. كَمَا لَوْ قَالَ: مَالِي صَدَقَةٌ فِي الْمَسَاكِينِ وَلَا مَالَ لَهُ لَا يَلْزَمُ شَيْءٌ. وَلَوْ قَالَ: كُلَّمَا أَكَلْت كَذَا فَعَلَيَّ أَنْ أَتَصَدَّقَ بِدِرْهَمٍ فَعَلَيْهِ بِكُلِّ لُقْمَةٍ مِنْهُ دِرْهَمٌ لِأَنَّ كُلَّ لُقْمَةٍ أَكْلَةٌ. وَلَوْ قَالَ: كُلَّمَا شَرِبْت فَإِنَّمَا يَلْزَمُهُ بِكُلِّ نَفَسٍ لَا بِكُلِّ مَصَّةٍ، وَلَوْ نَذَرَ أَنْ يَتَصَدَّقَ عَلَى فُقَرَاءِ مَكَّةَ فَتَصَدَّقَ عَلَى غَيْرِهِمْ جَازَ لِأَنَّ لُزُومَ النَّذْرِ إنَّمَا هُوَ بِمَا هُوَ قُرْبَةٌ، وَذَلِكَ بِالصَّدَقَةِ فَبِاعْتِبَارِهَا يَلْزَمُ لَا بِمَا زَادَ، وَأَيْضًا الصَّرْفُ إلَى كُلِّ فَقِيرٍ صَرْفٌ إلَى اللَّهِ تَعَالَى فَلَمْ يَخْتَلِفْ الْمُسْتَحِقُّ فَيَجُوزُ، وَصَارَ نَظِيرُ مَا لَوْ نَذَرَ صَوْمًا أَوْ صَلَاةً بِمَكَّةَ فَصَامَ وَصَلَّى فِي غَيْرِهَا حَيْثُ يَجُوزُ عِنْدَنَا.